خذوا المناصب والمكاسب
في عالم الموسيقى العربية، حيث يتقاطع التراث مع الحداثة، وفي هذا العالم الذي يموج بالتغيرات، يبقى الفنّ ملاذاً للروح ومرآةً تعكس واقعنا, ومن تونس الخضراء، انطلق صوت قوي ليصدح في سماء الغناء والطرب حاملاً معه إرثاً موسيقياً عريقاً. كله ألوانٌ زاهيةٌ يجسد لوحةً فنيةً فريدةً تميز بها هذا الفنان المبدع.

بوشناق يُغني للناس قبل السلطة..
الفنان الكبير « لطفي بوشناق» برز كأحد أهم الأصوات التي حافظت على الأصالة، وسارت بها نحو المستقبل، بصوته العذب وأدائه الفريد، استطاع أن يكون سفيراً للهوية الموسيقية العربية، مجسداً في أعماله هموم الشعوب، وقضايا الوطن، ورسائل الإنسانية.
على مدى عقود، لم يكن بوشناق مجرد مغنٍ، بل كان شاعراً، يحمل رسالة واضحة في كل كلمة يؤديها. من المالوف التونسي إلى القصائد الصوفية، ومن الأغاني السياسية إلى العاطفية، ظل محافظاً على خط فني متفرد، متزناً بين التجديد والتمسك بالجذور.
في هذا اللقاء الخاص، نقترب أكثر من هذه القامة الفنية، لنتحدث عن محطاته المهمة، رؤيته للمشهد الموسيقي العربي، وأسرار تجربته الغنية التي تمتد لعقود، بين المهرجانات العالمية والمشاريع الموسيقية التي تعكس هويةً لا تتغير رغم تقلبات الزمن.
«سفير النوايا الحسنة» لقب تنازلت عنه..
وما حدث في غزة وصمة عار في تاريخ الإنسانية
حوار/ منال البوصيري
حدثنا عن مشاركتك الأخيرة الصيف الماضي في مهرجان ليالي المدينة وكيف جاءت الدعوة لها ؟
مشاركتي في مهرجان المدينة خلال الصيف الماضي كانت فرصة رائعة لإعادة التواصل مع الجمهور الليبي العزيز على قلبي. كانت سهرة لا تُنسى بالنسبة لي، حيث شهدت تفاعلاً كبيراً وحباً صادقاً من الجمهور.
كنت، وما زلت، وسأظل دائمًا صادقًا في رسالتي الفنية، ومخلصاً للجمهور الذي أحبني ودعمني. لا أحب أن أخيب ظن من وثق بي، فمن الصعب أن ترسم صورة إيجابية في ذاكرة جمهورك، والأصعب هو الحفاظ عليها والاستمرار في تقديم ما يليق به. أسعى دائمًا إلى تقديم فني بأمانة وصدق، وبما يرضي الله والضمير، ملتزماً بالحرفية والمهنية التي يتطلبها العمل الفني.
_ كيف ترى المشهد الليبي اليوم.. وما هو انطباعك لهذه الزيارة ؟
ليبيا وتونس تجمعهما روابط عميقة وصادقة، وهذا ليس مجرد كلام للمجاملة، بل هو حقيقة تاريخية. نحن شعب واحد بتاريخ مشترك وعلاقات متينة، ولا أرى أي فرق بيننا. في الوطن العربي عموماً، نحن إخوة بالدين والتاريخ والثقافة.
إخوتنا الليبيون عندما يأتون إلى تونس، يشعرون وكأنهم في بلدهم، لأن لغتنا وعاداتنا وحتى طبيعتنا متشابهة جدًا. دائمًا أدعو الله أن يوحد الصفوف ويحفظ ليبيا من كل شر، وأسأل الله أن يوفق ولاة أمورها لما فيه الخير لهذا البلد الغالي على قلبي.
_ تمتلك مشروعاً موسيقياً كبيراً ، وهو المزج بين الأغنية الحديثة بإيقاعها السريع والموروث الشعبي التونسي الكلاسيكي.. حدثنا عن هذا المشروع ؟
أنا دائماً أؤمن بأن المشروع الموسيقي يجب أن يكون امتداداً للماضي، وتعايشاً مع الحاضر، ورؤية للمستقبل، فأنا لم آتِ من فراغ، بل من تاريخ وتراث موسيقي كبير تعلمت منه الكثير، لكن من المهم أيضاً أن أكون شاهداً على الحقبة الزمنية التي أعيشها، وأن أعكس الواقع بصدق.
الفنان يجب أن يكون صوت جمهوره، يُعبر عن أحلامهم، غضبهم، أفراحهم وآلامهم. أنا جزء من هذا الجمهور، وأسعى من خلال فني إلى نقل مشاعرهم وتجاربهم، أتمنى أن يمنحني الله العمر الكافي حتى يستمع الناس إلى أغنياتي في المستقبل، فيتخيلون كيف كانت الحقبة الزمنية التي عشتها وعبرت عنها بفني. فالموسيقى ليست مجرد ألحان و كلمات، بل شهادة على واقعنا، تعبر عن حبنا لبعضنا، عن مشاكلنا، أحلامنا، وحدتنا وكل ما نمر به.
_تميزت بأداء الموشحات والأغاني الصوفية والمالوف التونسي، وأناشيد القصائد .. فهل الفنان هو من يختار اللون الغنائي الخاص به أم أن هناك معطيات اخرى تحدد ذلك؟
– الهوية العربية في الموسيقى تتجلى في فنون الموشحات، الأغاني الصوفية، المالوف، الأناشيد، والقصائد ومن الضروري أن يكون للفنان تجارب في هذه الأنماط، وأن يكون امتداداً لهذا التاريخ العريق. هناك مواضيع مهمة يجب أن تُطرح في الأغاني، ولا ينبغي أن تقتصر الأغاني فقط على العبارات المتكررة مثل «أحبك وتحبني»، بل يجب أن تتناول قضايا أعمق تعكس واقعنا.
الحفاظ على القوالب الموسيقية العربية هو جزء أساسي من هويتنا، وفي الوقت نفسه، يمكننا الانفتاح على القوالب والأنماط الحديثة دون فقدان أصالتنا. يمكن للفنان أن يجرب أساليب جديدة، لكنه يجب أن يحافظ على هويته في النغمة، الإيقاع، الكلمة، وعمق المعاني التي يقدمها. فالرسالة الفنية لا تقتصر فقط على الترفيه، بل هي وسيلة للحفاظ على تراثنا الثقافي ونقله للأجيال القادمة.

_ بدأت مسيرتك الفنية في السبعينيات وكانت أولى أغنياتك هي أغنية «جرى إيه يا دنيا»، ومنها كانت انطلاقتك الفنية إلى العالم العربي لتكون مسيرة حافلة بالعطاء .. لو نعود للوراء لطفي بوشناق ماذا يُغير في هذه المسيرة؟
- بدأت مسيرتي الفنية في السبعينيات، لكن في الثمانينيات قدمت العديد من الألحان المميزة، مثل «احنا الجود، احنا الكرم»، و«كل ما فيك زاد جنوني» من كلمات الشاعر صلاح الدين بوزيان. كما كانت أول أغنية لي في مصر «جرى إيه للدنيا يا ناس», التي لحّنها الفنان الراحل أحمد صدقي.
بالنسبة لمسيرتي، ما يعرفه الجمهور العربي عني لا يتجاوز النسبة البسيطة من أعمالي، إذ لدى الكثير من الإنتاجات المهمة التي لم تحظَ بالانتشار الكافي. وهنا يأتي دور الإعلام، الذي له أهمية كبرى في إيصال الفن الحقيقي إلى الجمهور ودعم المبدعين.
عندما تسأليني عن التغيير في المسيرة الفنية، أقول لك بصراحة: هل ما تسمعه اليوم يعبر عنك حقاً؟ الساحة الفنية العربية تعج بالمبدعين في الكتابة، الغناء، والتلحين، لكن
لإعلام يجب أن يلعب دورًا أكبر في دعم هؤلاء المبدعين وإعطائهم الفرصة لتقديم أنماط موسيقية جديدة وأعمال فنية ذات قيمة.
مسيرتي كانت ولا تزال وستظل متمسكة بالقضايا التي تهم الوطن والمواطن. لا تقتصر أعمالي على الغناء العاطفي فقط، بل أسعى إلى تقديم رسالة هادفة تخدم المجتمع. الإعلام مهم في إيصال هذه الرسائل، ليس فقط لتثبيت الهوية الثقافية، بل حتى لدعم الإقتصاد من خلال الفن. بالنسبة لي، أن أكون شاهداً على العصر بمواقفي، بكلمتي، بألحاني، وبإنتاجي، هو جوهر مسيرتي الفنية. واليوم الذي لا أعمل فيه، أشعر وكأنني عالة على المجتمع.
_ ما رأيك في تبني الفنان لأيديولوجيا سياسية معينة وهل هذا الأمر يؤثر عليه ؟
بالنسبة لاعتماد الفنان سياسة أو أيديولوجية سياسية معينة، فأنا بعيد تماماً عن السياسة، ولديّ موقف واضح منها. بالنسبة لي، السياسة تعني أنه لا يوجد عدو دائم ولا صديق دائم، بل تتغير المواقف حسب المصالح والظروف. لا أرى أن الفنان يجب أن ينخرط في السياسة، لكن الإنسان، وحقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية، هذه الأمور هي التي أؤمن بها. أما الانتماء إلى جهة سياسية معينة، فهذا ليس من قناعاتي على الإطلاق.
_كيف كان تعاملك مع الهجمات التي شنت ضدك سواء بسبب مواقفك السياسية أو حتى أو لمشاركتك في مهرجان أُوسكار ليبيا التي لاقت هجوماً وانتقاداً واسعاً من شريحة كبيرة من النقاد والإعلاميين في تونس؟
لا أعتقد أنني تعرضت لهجمات أو انتقادات خلال مشاركتي في المهرجان بتونس، فأنا لا أتذكر أي موقف من هذا القبيل، ولم يكن هناك أي انتماء لجهة سياسية أو مشروع سياسي معين، سواء تونسي أو عربي أو حتى عالمي. غنيت الأغاني التي أحببتها، دون أي خلفيات سياسية.
_كانت لك تجربة في مجال التمثيل عام 2012 شاركت من خلالها في الموسم الثالث من المسلسل التونسي “مكتوب”، كما اشتركت في أوبريت “عناقيد الضياء”.. هذه التجربة ماذا أضافت لك ؟ وهل ستتكرر ؟
- بالنسبة لتجربتي في مجال التمثيل، لا أعتبر نفسي ممثلاً، لكنها كانت تجربة خضتها بعد أن قرأت النص ورأيت أنه لا يسيء إليّ أو يغيّر من صورتي. التمثيل بالنسبة لي كان مجرد تجربة، مثلما خاضها فريد الأطرش وعبد الوهاب من قبلي. لا أرى فيها أي مشكلة، وأتمنى أن أكون قد أضفت شيئاً للعمل، كما أتمنى أن يكون قد أضاف لي. إذا عرض عليّ عمل جديد وشعرت أنني سأضيف له شيئًا وأنه سيضيف لي بالمقابل، فلن أتردد في قبوله.
_ أديت العديد من الأغاني السياسية مثل «أنا مواطن»، و«السياسي والكراسي»« أغنية» «غزة اصمدي» وغيرها الكثير .. علاقة الفن بالسياسة من وجهة نظرك كيف تكون ؟
– بخصوص الأغاني التي يُقال إنها سياسية، مثل «أنا مواطن» فهي ليست ذات طابع سياسي على الإطلاق، بل تعبر عن الواقع الذي نعيشه. هذه الأغنية لا تخص تونس فقط، بل تعكس وضعاً عاماً. عندما أقول «خذوا المناصب والمكاسب، لكن لا تبيعوا الوطن», فالمقصود هنا هو أن الوطن وسيادته وتاريخه ملك للجميع. قد تكون هناك مشاكل وصراعات، لكن الوطن خط أحمر.
و علاقة الفن بالسياسة تكمن في مصلحة الوطن. عندما ننتقد الخطأ، فهذا ليس سياسة، بل مسؤولية. هل إذا رأيت شيئاً خاطئاً وانتقدته، يعني ذلك أنك تدخلت في السياسة؟ لا أعتقد ذلك،الفنان هو مرآة الواقع، وهو شاهد على الحقبة الزمنية التي يعيشها. نحن صوت الشعب وذاكرته، وعلينا أن نعبر عن قضاياه. قد يعبر البعض عن آرائهم بالقلم، وأنا أعبر عنها بفني.

لا أعتبر نفسي ممثلا فالتمثيل مجرد تجربة ولن أمانع في خوضها مجددا
_ تغّنى الفنان لطفي بوشناق بعديد الأعمال الغنائية لليبيا منها عمل غنائي للبنيان المرصوص أيضاً أؤُبريت عودة وطن وتتر مسلسل السيرة العامرية وعديد الأغاني الوطنية الليبية الأخرى كيف عبر الفنان لطفي أبوشناق عن عشقه لليبيا ؟ وكيف قيم الأعمال الغنائية المشتركة بين البلدين؟
– أي عمل أشارك فيه يجب أن يكون خالياً من أي انتماء سياسي لأي جهة معينة. ليبيا كدولة وشعب، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، لها كل احترامي. وكما ذكرت سابقًا، أنا لا أنتمي إلى أي طرف سياسي، وأغني للشعب الليبي بكلماتي التي لا تتضمن أي دعم لجهة معينة أو معاداة لأي طرف. الفن هو الذي يوحّد الشعوب، وهو الجسر الذي يصل بين الثقافات ويجمع الناس في الأفراح والمناسبات. لذلك، لا يمكنني أن أقع في خطأ اتخاذ موقف سياسي معين.
نحن كفنانين نرحب دائمًا بالمشاركة في أعمال وطنية، سواء لتونس أو لليبيا، بشرط ألا تكون لها أي خلفيات سياسية. كما أن الفنانين الليبيين يشاركون في أعمال تونسية، وأنا كذلك لا أمانع في المشاركة في عمل وطني ليبي إذا تم تقديمه لي، دون تردد.
_ في العام 2004 تم اختيارك من الأمم المتحدة سفيراً للنوايا الحسنة في تونس .. ماذا قدمت لك هذه التجربة وماذا قدمت أنت من خلالها ؟..
-في البداية تم منحي لقب «سفير النوايا الحسنة» في تونس، لكن بعد الأحداث التي جرت في غزة، تنازلت عن هذا اللقب لأنه لم يضف لي شيئاً، ولأن الأمم المتحدة بقيت صامتة تجاه الجرائم التي اُرتكبت ضد الشعب الفلسطيني. ما حدث في غزة هو مجزرة إنسانية، حيث تجاوز عدد الشهداء 40,000، والجرحى أكثر من 100,000، وهناك 10,000 مفقود. هذا ليس مجرد كارثة، بل وصمة عار في تاريخ الإنسانية. لهذا السبب، لم يعد يشرفني أن أُلقّب بسفير للسلام تحت مظلة منظمة لم تتخذ موقفاً حاسماً تجاه هذه المأساة. التسمية رمزية فقط، لكنها لا تغير شيئاً في الواقع.
((المشروع الموسيقي الكبير))
امتداد للماضي وتعايش مع الحاضر رؤية للمستقبل
_ ما هو دور العائلة في حياة الفنان لطفي بو شناق ؟
- بالنسبة لدور العائلة في حياتي، فأنا أعترف بأنني مقصّر تجاهها بسبب انشغالي الدائم في الاستديوهات، وتجهيز الأعمال الفنية، السفر، وإحياء الحفلات. بالطبع، أقوم بواجبي تجاه عائلتي، لكن ظروف العمل جعلتني أبتعد قليلاً، مع ذلك، هم يتفهمون طبيعة عملي، وهذه هي حياتنا كفنانين.
_ما هو اللون الغنائي الأقرب إليك.. و أين تجد نفسك في التلحين أم الغناء ؟
- لا يمكنني تحديد لون غنائي واحد، فأنا لا أغني شيئاً لا أشعر به. كل الألوان التي غنيتها كانت تجارب حقيقية أضافت لي وأضفت لها. وأجد نفسي في الغناء والتلحين، ومعظم أعمالي كانت من إنتاجي وألحاني. أتمنى أن أكون قد قدمت فناً صادقاً، وأن أكون قد وُفِّقت فيما قدمته، سواء في التلحين أو الغناء.
_ هناك إقبال كبير على غناء الموروث الشعبي القديم من بعض الفنانين الشباب، في رأيك كيف تكون الآلية للتعريف بهذا الموروث وايجاد سبل لاحيائه بأصوات جديدة؟
– لست ضد غناء الموروث الشعبي القديم، لكن كبار الفنانين الذين سبقونا عبّروا عن واقعهم وزمانهم. أما نحن، فنعيش في عصر مختلف تماماً، بتغيراته وأحداثه. الفنان يجب أن يكون شاهداً على عصره، كما تعلمنا من السابقين، لكن لا يمكننا أن نتوقف عند التراث فقط. علينا أن نبدع ونضيف شيئاً جديداً، ليكون لنا نحن أيضاً تراث يُغنى بعد 100 سنة، بحيث تستطيع الأجيال القادمة أن تفهم كيف كنا نعيش وما قدمناه من فن يعكس عصرنا.
_ تعيش مجتمعاتنا اليوم في فوضى مبعثرة القيم ودخول ألوان غنائية مستحدثة.. ما هو دور القامات الفنية مثل حضرتك في تصحيح الاتجاه لما نراه ونسمعه اليوم من أغاني؟
-لا يمكننا إنكار تأثير الإعلام الكبير على المجتمعات. هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق وسائل الإعلام في توجيه الذوق العام. لا أحب التعميم، لكن إذا نشأ جيل على نوع معين من الأغاني التي لا علاقة لها بتاريخه أو حاضره أو مستقبله، فلا يمكننا لومه، بل اللوم يقع على من تجاهل دورهم الأساسي في دعم المبدعين الحقيقيين. علينا كإعلاميين ومثقفين ونخب أن نأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، وأن نعمل على تعزيز الأعمال الهادفة التي ترتقي بالذوق العام.
_ كلمة أخيرة لقراء مجلة الليبية ..
أتمنى أن أكون قد كنت صادقاً معكم في هذا الحوار، وإن شاء الله يجمعنا لقاء قريب .
Share this content:
إرسال التعليق