×

ترحال قسري !

ترحال قسري !

لم‭ ‬يكن‭ ‬طلاق‭ ‬‮«‬ح‭.‬م‮»‬‭ ‬من‭ ‬‮«‬ع‭.‬ع‮»‬‭ ‬نهايةً‭ ‬لعلاقة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬إيذاناً‭ ‬ببداية‭ ‬حربٍ‭ ‬ضروس،‭ ‬بطلها‭ ‬الخفي‭ ‬وضحيتها‭ ‬المعلنة‭ ‬هو‭ ‬طفلهما‭ ‬الوحيد‭. ‬تحوّل‭ ‬الولدُ‭ ‬البريء‭ ‬إلى‭ ‬أغلى‭ ‬ورقة‭ ‬ضغط‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الطرفين‭. ‬انقسمت‭ ‬حياته‭ ‬بين‭ ‬ليلةٍ‭ ‬ويوم،‭ ‬فراح‭ ‬ينام‭ ‬يوماً‭ ‬تحت‭ ‬سقفٍ‭ ‬ويقضي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬تحت‭ ‬سقفٍ‭ ‬آخر،‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬‮«‬ترحال‭ ‬قسري‮»‬‭ ‬أبدية‭ ‬بين‭ ‬منزلين‭ ‬مُتنافرين‭.‬

​كانت‭ ‬حقيبته‭ ‬الصغيرة‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬ملابس‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬شحناتٍ‭ ‬من‭ ‬السموم‭ ‬العاطفية؛‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬بيت،‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬سيلٍ‭ ‬من‭ ‬الاتهامات‭ ‬والتجريح‭ ‬الذي‭ ‬يوجهه‭ ‬أحدهما‭ ‬للآخر‭. ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬ينسج‭ ‬صورةً‭ ‬مشوهة‭ ‬عن‭ ‬الطريد،‭ ‬ظناً‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬طريق‭ ‬النصر‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬الحضانة‭ ‬والانتقام‭.‬

​ترعرع‭ ‬الولد‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭ ‬القاتم،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينشأ‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬والثقة،‭ ‬نما‭ ‬معه‭ ‬شعورٌ‭ ‬بالارتباك‭ ‬والضياع‭. ‬تحولت‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬الأبوين‭ ‬إلى‭ ‬خزانٍ‭ ‬فارغٍ‭ ‬من‭ ‬اليقين‭. ‬كبرت‭ ‬أجنحته‭ ‬محطمة،‭ ‬محملة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬رماد‮»‬‭ ‬الخلافات‭ ‬القديمة‭. ‬وفي‭ ‬مقتبل‭ ‬عمره،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬ورث‭ ‬من‭ ‬والديه‭ ‬سوى‭ ‬جرح‭ ‬طفولة‭ ‬عميق،‭ ‬وعُقدٍ‭ ‬نفسية‭ ‬راسخة،‭ ‬لينتهي‭ ‬به‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬كراهية‭ ‬فكرة‭ ‬الزواج‭ ‬وتأسيس‭ ‬الأسرة‭ ‬برمتها،‭ ‬وكأنها‭ ‬لعنةٌ‭ ‬محتومة‭ ‬لا‭ ‬خلاص‭ ‬منها

​في‭ ‬مكتب‭ ‬الاستشارات‭ ‬النفسية،‭ ‬وصل‭ ‬الشاب،‭ ‬بملامح‭ ‬تنضح‭ ‬بالتشتت،‭ ‬في‭ ‬موعدٍ‭ ‬حُجز‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬حاملاً‭ ‬عبئاً‭ ‬ثقيلاً‭ ‬وسؤالاً‭ ‬واحداً‭ ‬حاسماً‭:‬

​‮«‬هل‭ ‬أنا‭ ‬مُضطرٌ‭ ‬للزواج‭ ‬أم‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬مُرتاحاً؟‮»‬

​كان‭ ‬السؤال‭ ‬صرخةً‭ ‬تُلخص‭ ‬خوف‭ ‬جيلٍ‭ ‬كاملٍ‭ ‬من‭ ‬تكرار‭ ‬التجربة‭ ‬المُرّة‭.‬

​وبعد‭ ‬حديثٍ‭ ‬مُطوّل‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الأسرة،‭ ‬وحكمة‭ ‬الشريعة،‭ ‬وجمال‭ ‬مشاركة‭ ‬الحياة،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬هو‭ ‬الضامن‭ ‬للنموذج‭ ‬الأفضل‭ ‬عبر‭ ‬التعلم‭ ‬من‭ ‬أخطاء‭ ‬الماضي‭… ‬انفجر‭ ‬الشاب‭ ‬في‭ ‬موجة‭ ‬بكاءٍ‭ ‬مُرّة‭. ‬كان‭ ‬البكاء‭ ‬شهادةً‭ ‬على‭ ‬عمق‭ ‬المشكلة؛‭ ‬شريطُ‭ ‬ذكريات‭ ‬الخلافات‭ ‬كان‭ ‬يمر‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬يُعيقه‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬خطوة‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل،‭ ‬وكأن‭ ‬الماضي‭ ‬يمسك‭ ‬بتلابيبه‭ ‬بقوة‭ ‬غاشمة‭.‬

​رحلة‭ ‬العلاج‭: ‬

​كانت‭ ‬اللحظة‭ ‬الفاصلة‭ ‬في‭ ‬رحلتنا‭ ‬هي‭ ‬قرار‭ ‬البدء‭ ‬في‭ ‬جلسات‭ ‬تفريغ‭ ‬لجراح‭ ‬الطفولة‭. ‬

فالتواجه‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي‭ ‬المُؤلم‭ ‬هو‭ ‬أولى‭ ‬خطوات‭ ‬التحرر‭. ‬

أبدى‭ ‬الشاب‭ ‬استعداده‭ ‬التام‭ ‬لخوض‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬الجديدة،‭ ‬معلناً‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬الأفكار‭ ‬السلبية‭ ‬التي‭ ‬توارثها‭ ‬إلى‭ ‬قناعات‭ ‬إيجابية،‭ ‬وبدأ‭ ‬في‭ ‬استقبال‭ ‬مستقبله‭ ‬بعينٍ‭ ‬مستبشرة‭ ‬وسعيدة‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭.‬

خاتمة‭:

تبقى‭ ‬الحقيقة‭ ‬ماثلة‭ ‬وواضحة‭ ‬كالشمس‭: ‬مشاكل‭ ‬الكبار،‭ ‬المتضرر‭ ‬الأكبر‭ ‬فيها‭ ‬هم‭ ‬الصغار‭. ‬فالأطفال‭ ‬هم‭ ‬الضحية‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬الثمن‭ ‬الأغلى‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحروب‭ ‬الأسرية‮»‬،‭ ‬خصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬يُستخدمون‭ ‬كسلاحٍ‭ ‬للانتقام،‭ ‬لتصبح‭ ‬أرواحهم‭ ‬جسراً‭ ‬تعبر‭ ‬عليه‭ ‬أنانية‭ ‬البالغين،‭ ‬تاركين‭ ‬خلفهم‭ ‬جيلاً‭ ‬يحتاج‭ ‬سنواتٍ‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬العلاج‭ ‬ليرمم‭ ‬ما‭ ‬هدمته‭ ‬صراعات‭ ‬الأمس‭.‬

رحلة‭ ‬أم‭..‬‭ ‬مع‭ ‬الاضطراب‭ ‬ثنائي‭ ‬القطب

في‭ ‬زحمة‭ ‬المكاتب‭ ‬المليئة‭ ‬بالقصص،‭ ‬زارتني‭ ‬سيدة‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬كاهلها‭ ‬عبئًا‭ ‬ثقيلًا‭. ‬كانت‭ ‬مصابة‭ ‬بمرض‭ ‬الاضطراب‭ ‬ثنائي‭ ‬القطب‭ (‬Bipolar‭ ‬Disorder‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬تشخيص‭ ‬دقيق‭ ‬أكّده‭ ‬طبيب‭ ‬مختص،‭ ‬ولديها‭ ‬خطة‭ ‬علاج‭ ‬دوائي‭ ‬مستمرة‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬قصة‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬مجرد‭ ‬حالة‭ ‬طبية،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬قصة‭ ‬حياة‭ ‬كاملة‭ ‬تتقلب‭ ‬بين‭ ‬قطبين‭ ‬متناقضين‭: ‬نوبات‭ ‬هوس‭ ‬تتميز‭ ‬بمزاج‭ ‬مرتفع‭ ‬وطاقة‭ ‬فائقة‭ ‬وثقة‭ ‬مفرطة‭ ‬بالنفس،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬سلوكيات‭ ‬متهورة؛‭ ‬ونوبات‭ ‬اكتئاب‭ ‬تطغى‭ ‬عليها‭ ‬مشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬واليأس‭ ‬وفقدان‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬التقلبات‭ ‬تلقي‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬علاقاتها،‭ ‬فكانت‭ ‬دائرة‭ ‬معارفها‭ ‬تنفر‭ ‬منها،‭ ‬والبعض‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬حالتها‭ ‬المتقلبة‭. ‬حتى‭ ‬زوجها،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬دعمها،‭ ‬اضطر‭ ‬لخلق‭ ‬مساحة‭ ‬خاصة‭ ‬به‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬ضغوطات‭ ‬المنزل‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الضغط‭ ‬النفسي،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬عدم‭ ‬تشخيص‭ ‬حالتها‭ ‬قبل‭ ‬الزواج،‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬الهاوية،‭ ‬فبدأت‭ ‬لديها‭ ‬أفكار‭ ‬تدميرية‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التفكير‭ ‬بالانتحار‭.‬

كانت‭ ‬‮«‬ل‭.‬ن‮»‬‭   ‬تعاني‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مشاعرها‭. ‬الأم‭ ‬هي‭ ‬ركيزة‭ ‬العائلة‭ ‬ومركز‭ ‬الأمان،‭ ‬وعندما‭ ‬تهتز‭ ‬هذه‭ ‬الركيزة‭ ‬بسبب‭ ‬مرض‭ ‬نفسي،‭ ‬يختلّ‭ ‬نظام‭ ‬البيت‭ ‬بأكمله‭. ‬كانت‭ ‬جذور‭ ‬المشكلة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬التأخر‭ ‬في‭ ‬التشخيص،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬وعائلتها‭ ‬يواجهون‭ ‬تحديات‭ ‬هائلة‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الحل‭ ‬سهلًا،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬ممكنًا‭. ‬بدأت‭ ‬بالعمل‭ ‬معها‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬مركزًا‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬جسور‭ ‬علاقتها‭ ‬بأطفالها‭.‬

‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬كانت‭ ‬تشعر‭ ‬بالإرهاق‭ ‬وتنسحب،‭ ‬لكن‭ ‬بفضل‭ ‬المثابرة‭ ‬ودعم‭ ‬زوجها،‭ ‬بدأت‭ ‬تستعيد‭ ‬طاقتها‭ ‬وتشارك‭ ‬في‭ ‬الأنشطة‭ ‬المشتركة،‭ ‬فأصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬إنتاجية‭ ‬في‭ ‬منزلها‭.‬

الخلاصة‭ ‬أن‭ ‬العلاج‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الأدوية‭ ‬وحدها‭. ‬فهو‭ ‬يتطلب‭ ‬التزامًا‭ ‬مستمرًا‭ ‬بزيارة‭ ‬الطبيب،‭ ‬وممارسة‭ ‬أنشطة‭ ‬تفريغ‭ ‬الطاقة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬الأسرة‭. ‬يجب‭ ‬على‭ ‬المحيطين‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬بطبيعة‭ ‬المرض‭ ‬ومسايرتها‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الصعبة،‭ ‬وأن‭ ‬يتم‭ ‬تعليم‭ ‬الأبناء‭ ‬كيف‭ ‬يكونون‭ ‬فاعلين‭ ‬وإيجابيين‭ ‬خلال‭ ‬الفترات‭ ‬الحرجة‭ ‬لأمهم‭. ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬هي‭ ‬تذكير‭ ‬بأن‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬ليست‭ ‬ضعفًا،‭ ‬وأن‭ ‬الدعم‭ ‬والوعي‭ ‬هما‭ ‬مفتاح‭ ‬الأمان‭ ‬والتعافي‭.‬

<< إشراف : منى أبو عزة 

Share this content: