تحت أقدامنا تماماً
هل كانت طرابلس مدينة مزدوجة؟
تحت شوارع طرابلس النابضة بالحياة، تمتد شبكة من السراديب والممرات التي نسجت حولها الأساطير لعقود.
من حكايات السجون السرية المظلمة إلى قصص الثعابين العملاقة، ظلت هذه الأنفاق عالمًا غامضًا يثير فضول السكان ورعبهم في آن واحد. لكن ما هي الحقيقة وراء هذه الروايات التي تسيطر على الخيال الشعبي؟

شوقي إبراهيم
جمعية ليبيا لاستكشاف المخابىء والكهوف
خرافات وأساطير: سجون وثعابين تحت الأرض
لأكثر من أربعين عامًا، كانت السراديب مادة دسمة للقصص الشعبية. زادت حدة هذه الروايات بعد أحداث فبراير، حيث ربطها البعض بسجون سرية لمعارضي النظام السابق، وتخيلوا شبكة أنفاق معقدة تمتد من شرق المدينة إلى غربها. بل ذهب الخيال إلى أبعد من ذلك، مع انتشار قصة مرعبة عن ثعابين ضخمة خرجت من أحد السراديب لتهاجم عمال صيانة في مبنى إيطالي قديم، وهي الحادثة التي تم تسجيل بلاغات بشأنها وأثارت ذعرًا واسعًا، خاصة بين تلاميذ مدرسة هايتي التي يقع المبنى بالقرب منها.
لكن هذه القصص، على الرغم من إثارتها، تفتقر إلى الدليل المادي. ففي تسعينيات القرن الماضي، قام فريق من المغامرين بالتعاون مع المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية (مركز جهاد الليبيين سابقًا) باستكشاف هذه المواقع. وبعد تفتيش دقيق للمبنى الذي قيل إن الثعابين ظهرت فيه، لم يتم العثور على أي أثر لها، مما بدد هذه الخرافة. أما بالنسبة للسجون، فقد عُثر بالفعل على سجن إيطالي قديم، لكن فكرة وجود شبكة واسعة من السجون السرية المتصلة تحت المدينة بأكملها ظلت مجرد سردية لا أساس لها من الصحة.

الحقيقة التاريخية:
ملاجئ للحماية وشبكات مياه قديمة
إذًا، ما هي حقيقة هذه الأنفاق؟ يكشف التاريخ عن وظيفتين رئيسيتين لهذه الإنشاءات تحت الأرض:
1. ملاجئ من الغارات الجوية:
بعد الحرب العالمية الأولى، ومع تزايد خطر القصف الجوي على المدن، أصبح بناء الملاجئ ضرورة لحماية المدنيين. خلال فترة الحكم الإيطالي في ليبيا، والتي شهدت طفرة معمارية كبيرة في طرابلس في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، تم تجهيز معظم المباني الحكومية والسكنية بملاجئ تحت الأرض. صُممت هذه الملاجئ لتكون متصلة أحيانًا بالمباني المجاورة، مما يسهل عمليات الإنقاذ والهروب في حال تعرض أحد المباني للقصف. أما الممرات القريبة من طريق الشط، فكانت في الأصل تؤدي إلى رصيف الكورنيش القديم قبل عملية ردم البحر التي جرت في عام 1979.
2. شبكات مياه جوفية:
تخفي المدينة القديمة تحتها سرًا أقدم بكثير. على عمق يزيد عن 14 مترًا، توجد شبكة معقدة من الممرات الضيقة التي تربط جميع آبار المدينة. هذه الشبكة ليست سوى نظام قديم للمياه الجوفية، شبيه بأنظمة “الفقارة” و”الأفلاج” الموجودة في الواحات الصحراوية ومناطق أخرى في شمال إفريقيا. يُعتقد أن هذه التقنية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، حيث ابتكرتها المجتمعات البشرية الأولى لضمان الحصول على المياه. هذه الممرات ضيقة وغير مستقيمة، مما يجعل التنفس فيها صعبًا، وقد تعرض بعضها لانهيارات أرضية، وهي
لم تخضع لدراسة علمية شاملة حتى الآن.

سراديب قلعة السرايا الحمراء:
أسرار لم تُكتشف بعد
تتمتع قلعة السرايا الحمراء، بتاريخها الممتد من العصر الروماني مرورًا بالإسباني والعثماني، بشبكتها الخاصة من السراديب. تشير الاستكشافات الأولية إلى وجود ممرات سرية كانت تستخدم لتأمين الدخول والخروج من القلعة جهة البحر، وقد يعود تاريخها إلى ما قبل الفترة الإسبانية، حين كانت مياه البحر تحيط بالقلعة من ثلاث جهات. كما احتوت القلعة على سجون استُخدمت في فترات تاريخية متعاقبة. لا تزال هذه السراديب بحاجة إلى دراسات أثرية معمقة لكشف جميع أسرارها.
كنز تاريخي ينتظر الاهتمام
إن سراديب طرابلس ليست مسرحًا للخرافات المرعبة، بل هي سجل تاريخي محفور تحت الأرض. إنها تحكي قصة مدينة عرفت كيف تحمي سكانها من أهوال الحرب، وكيف ابتكرت أنظمة عبقرية لضمان بقائها منذ آلاف السنين. وبدلاً من تركها للأساطير، يجب الاهتمام بهذه المواقع ودراستها وتحويلها إلى مزارات تاريخية، لتكون شاهدًا حيًا على عراقة طرابلس وإرثها الحضاري
Share this content: