بين بيوت الناس
صارت الزرائب جدرانا إضافية
الانفلات الحاضر في غياب التراخيص والرقابة
في إحدى زوايا طرابلس، وتحديدًا في “الحي الإسلامي” – أو ما يُعرف بـ”حي 2 مارس” – لا تحتاج أن تجهد أنفك لتعرف أنك تقترب من الزرائب. روائح خانقة، ذباب بحجم طائرات ورقية، وضجيج لا ينقطع. في هذا الحي الشعبي، تنتشر الزرائب الصغيرة بين محال بيع اللحوم والعمارات السكنية، وغالبًا ما تكون ملاصقة للبيوت. تحتوي هذه الزرائب في الغالب على الخراف، لكن لا يُستغرب أحيانًا رؤية جمال مربوطة قرب المنازل أو على أطراف الأزقة..يتميّز الحي بكثافته السكانية العالية، وتداخل مبانيه العشوائية، وأزقته الضيقة. وهو حي شعبي تطور تدريجيًا خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي مع توسع المدينة وازدهار النشاط التجاري في مجال بيع اللحوم والأسماك.
أما تسميته، فتعكس جانبين من تاريخه حيث يُعتقد أن عبارة “الحي الإسلامي” جاءت ارتباطًا بطبيعة المنتجات التي تُباع فيه، إذ يحرص التجار على التزام الذبح وفق الشريعة الإسلامية. في حين يشير الاسم الآخر، “2 مارس”، إلى تاريخ إعلان قيام سلطة الشعب في النظام السابق، ما يعكس البعد السياسي الذي طبع معالم الحي في تلك الحقبة.
تحقيق :منال الهمشري
تقاليد تتحدى الصحة
يعيش في الحي اليوم آلاف السكان، أغلبهم من ذوي الدخل المحدود، يعتمد كثير منهم على أنشطة السوق اليومية لكسب أقواتهم.
العمارات هنا مبنية بطوابق متعددة، تسكنها عائلات كبيرة، تعتمد على ضخّ المياه لتصل إلى الشقق العلوية. لكنّ هذه الحياة الرأسية الهشة، تصطدم كل يوم بحقيقة وجود الزرائب في الأسفل. مخلفات الذبح، الدماء، والروائح النافذة، لا تلوّث الهواء فحسب، بل تتسرّب إلى شبكة الصرف الصحي، مسبّبة انسدادات متكررة تهدّد نظافة المياه التي تصل إلى الخزانات.
وفي ظل ضعف البنية التحتية، يصبح مجرد الاستحمام أو غسل الطعام مغامرة صحية غير مضمونة العواقب.
في هذا الحي يمكنك أن تذهب لتختار خروفك بنفسك، ويقوم البائع بذبحه فورًا أمامك في “سلخانة” محله أو في الشارع مباشرةً، مشهدٌ لا يثير استغراب أحد، بل أصبح جزءًا من الحياة اليومية.
يأتي التجار إلى الحي بجميع أنواع الحيوانات لذبحها وبيعها، ويقصده المواطنون من داخل طرابلس وخارجها، لا سيما في الأعياد لذبح أضاحيهم.

مساحات مهملة
تنتشر الزرائب الصغيرة هنا بين البيوت وعلى أطراف الأزقة الخلفية، من دون أي تنظيم أو ترخيص رسمي، في ظل غياب أسواق مخصصة للمواشي داخل المدينة. لا توجد أرقام دقيقة لعددها، لكنها تُقدّر بالعشرات.
ظهرت هذه الزرائب تدريجيًا خلال السنوات الأخيرة، بعدما تقلصت المساحات المفتوحة التي كانت تُستخدم سابقًا لتربية الحيوانات، إما بسبب التوسع العمراني أو مشاريع استثمارية التهمت الأراضي الطرفية.
بات مربّو المواشي يبحثون عن أماكن بديلة، مثل مبانٍ مهجورة أو زوايا نائية داخل الأحياء، وسط فوضى تنظيمية ورقابة ضعيفة. وبعضهم يضع زريبته خلف محله أو بجانبها إذا كانت تتوفر مساحة خالية.
في السابق، كانت هذه الأنشطة تتركّز في أسواق تقليدية مثل “سوق السبت” أو في أطراف المدينة، لكن تضييق السلطات على تلك المناطق بسبب مشاريع التطوير العقاري والاعتبارات الصحية والبيئية، دفع بالمربين إلى الأحياء الداخلية، حيث لم تعد الأسواق القديمة مهيّأة أو مرحبًا بها كما في السابق. ومع إقبال السكان على الشراء من هذا الحي لقربه من بيوتهم، وتجنّبهم عناء الوصول إلى الأسواق البعيدة، تحوّل الحي تدريجيًا إلى سوق غير رسمي للمواشي، ينبض بالروائح والحركة، لكنه خارج عن أي رقابة حقيقيةبين الحاجة والفوضى.
أما اللحوم، فتعرض على قارعة الطريق، دون تبريد أو تغطية، معلقة في الهواء الطلق، على مرأى الذباب والسيارات والغبار.
هذا المشهد، رغم ما يحمله من فوضى ومخاطر صحية، ليس بمستغرب. فبلادنا، تفتقر إلى ثقافة الأسواق الرسمية المتخصصة في بيع المواشي أو ذبحها وفق معايير صحية معتمدة. معظم المدن تفتقر إلى المسالخ المركزية المجهزة أو نظم الرقابة الفعالة، مما يجعل تربية المواشي وذبحها داخل الأحياء خيارًا شائعًا بدلاً من أن يكون استثناءً.
هذه الممارسات صارت مألوفة، لا تُستنكر إلا نادرًا، لأنها ببساطة تملأ فراغًا تركه التخطيط العمراني، ويفرضه الواقع والحاجة، ويغلفه الموروث المحلي بطابع من القبول الجماعي.

العيش في ظل سلخانة مفتوحة
وسط هذه الفوضى، تعيش نعيمة السيد، امرأة في منتصف الخمسينات، وجدت نفسها وعائلتها محاصرين بما يشبه “سلخانة مفتوحة”، لا تُغلق أبوابها إلا لوهلة… لتعود الحياة، أو ما يشبهها، وتضجّ من جديد.
“أنا وثلاثة شباب وزوجي نسكن في منطقة تُعد أكبر سوق للحوم الطازجة. سلخانة كبيرة تعتمد عليها أسواق طرابلس الكبرى يوميًا في تغذيتها من اللحوم. يؤثر ذلك بشكل كبير على حياتنا اليومية.”
هذه ليست مجرد شكوى عابرة، بل صرخة مكتومة باسم كل النساء اللواتي يدفعن ثمن “الفوضى البيئية”، بأعصابهن، وأجسادهم، وأحيانًا بكرامتهن. تقول نعيمة، التي تنقّلت بين أحياء عدّة قبل أن تستقر في هذا الحي “المشاكل السياسية أجبرتنا على التنقل.
وجدنا في هذا الحي بعض الأمان. لكنه أمانٌ مغموس بالروائح الكريهة، والصراخ، والعتمة الصحية.” وإذا كان المشهد داخل المنزل خانقًا، فإن الشارع ليس بأفضل حال “الشارع مزدحم، تلوث، صراخ الباعة، حركة شاحنات، ذباب… حتى فنجان قهوة على الشرفة صار حلمًا.”

حقوق مهمشة
ورغم كل ذلك، لم يقف بعض السكان مكتوفي الأيدي، فقد حاولوا إيصال أصواتهم مرارًا “قدمنا شكاوى للبلدية ووزارة البيئة. لم يتغير شيء. هي عادة ليبية، لا أحد يرغب في تحمّل مسؤولياته. الوعود كثيرة، ولكن لا أحد يفي.”
وتساءلت نعيمة، وهي تحصي أضرار الرائحة والحشرات وحساسية الأطفال “هل هذا عدل؟ الأحياء الأخرى تحصل على خدمات أفضل. نحن مهمشون فقط لأننا قرب سوق المواشي؟!”
لم تفقد نعيمة إيمانها بإمكانية التغيير، وترى أن أول خطوة يجب أن تكون بنقل سوق المواشي بعيدًا عن المناطق السكنية، حيث يمكن بناء مسلخ مركزي مجهز بمواصفات صحية تضمن النظافة وسلامة اللحوم، وتحمي السكان من التلوث. أما المخلفات فيجب أن يُخصص لها مكان آمن بعيد عن البيوت، بدل أن تُرمى على الطرقات أو خلف الجدران.
تتحدث أيضًا عن أهمية تنظيف الشوارع بشكل منتظم، لا فقط في المناسبات، بل كجزء من روتين يومي تتكفله البلدية.
وبنبرة يغلب عليها التعب، تضيف “وحتى لو ما يقدروا يغيروا كل شيء، على الأقل يعوضونا نفسيًا وصحيًا، لأن اللي نعيشه مش طبيعي.”
تشريعات بلا جدوى
من الناحية القانونية، لا تسير الأمور على هذا النحو العشوائي كما يبدو للوهلة الأولى. توضح المحامية كريمة عمار بن عيسى أن تربية الماشية ومهنة الجزارة ليستا خارج إطار التنظيم، بل تخضعان لقوانين ولوائح تضعها نقابات مهنية مختصة، مثل نقابتي الجزارين ومربي الماشية.
هذه النقابات تنظّم شروط إنشاء الزرائب، وآليات الذبح، وضوابط النظافة، وتُلزم المنتسبين إليها بدفع الرسوم والالتزام بالمعايير الصحية والمهنية.
لكن، ورغم هذا الإطار التنظيمي، فإن إقامة زرائب ومسالخ وسط الأحياء السكنية يُعد مخالفة واضحة، لما تسببه من أذى بيئي وصحي لسكان المنطقة.
وجود أسواق مخصصة ومزارع خاصة يجعل من هذا التوسع داخل الأحياء أمرًا غير مبرر قانونيًا أو وظيفيًا.
وتشير المحامية بن عيسى إلى أن مسؤولية تطبيق هذه اللوائح تقع على عاتق الحرس البلدي، المخوّل بتلقي شكاوى السكان، وفرض العقوبات التي تبدأ من الغرامات المالية، ولا تنتهي عند حدود إزالة الزرائب، بل قد تصل إلى الحبس إذا تسببت المخالفات في ضرر مادي أو معنوي.
حملات موسمية بلا أثر
محاولات البلديات لم تكن غائبة تمامًا. بلدية طرابلس أعلنت مرارًا عن حملات محدودة خلال فترات الأعياد، لإزالة الزرائب من الشوارع والساحات.
لكنها تظل حملات موسمية لا تتعدى أيامًا معدودة، وتفتقر إلى الاستمرارية أو الرقابة بعد العيد. هذا ما يجعل السكان يشعرون بأنهم مجرد صورة باهتة في مشهد أكبر، لا أحد يراهم أو يسمعهم.
بيئة مثالية لانتقال العدوى
من أبرز المخاطر التي تهدد الصحة العامة في الحي الإسلامي، أن هذه المواشي ليست دائمًا محلّية أو تحت رقابة بيطرية صارمة.
ففي عام 2024، سجّل المركز الوطني للصحة الحيوانية تفشيًا واسعًا لمرض الحمى القلاعية، لا سيما في المناطق الغربية والجنوبية من ليبيا، وأرجع مدير المركز، الدكتور عبد الرحمن جبيل، السبب الرئيس إلى دخول مواشٍ مريضة عبر المنافذ البرّية من دول مثل السودان وتشاد، دون إخضاعها لأي فحوصات بيطرية.
بؤر الوباء :
حكاية الأزقة ومزارع التفريخ المجهولة
ومع غياب الرقابة على الحدود، وسوء تربية المواشي داخل المدن، تصبح الزرائب العشوائية مثل تلك المنتشرة بين الأزقة والمنازل في السوق الإسلامي بيئة مثالية لتكاثر الأمراض وانتقال العدوى، سواء بين الحيوانات أو من الحيوان إلى الإنسان. هكذا يتضاعف الخطر في حيّ مكتظ بالسكان، يعاني أساسًا من ضعف الخدمات الطبية والبنية التحتية، ويعيش على وقع روائح الفضلات وتهديدات صحية لا تُرى بالعين المجردة.
لقد أسفرت هذه الأزمة عن موجة وبائية غير مسبوقة طالت مواشي ليبيا، مهددة سبل عيش آلاف الأسر، خصوصًا في الأحياء الضعيفة كالحي الإسلامي. إذ تم تسجيل 47 بؤرة إصابة مؤكدة، مما أدى إلى نفوق أكثر من 550 رأسًا من الأغنام، وإصابة 2246 رأسًا أخرى، بينما تم احتساب أكثر من 6600 رأس ضمن الحيوانات المعرضة للاختلاط بالعدوى. بالإضافة إلى ذلك، تفشى مرض الجلد العقدي ومرض اللسان الأزرق، مما زاد من القلق وأربك جهود التلقيح.
كلنا في خطر !
يحذر الأطباء البيطريون من أن الحمى القلاعية ليست التهديد الوحيد الذي يواجه القطاع الحيواني، حيث توجد أمراض مشتركة بين الإنسان والحيوان، مثل البروسيلا والسل البقري، والتي يمكن أن تنتقل عبر الهواء أو من خلال الذبح العشوائي، أو ملامسة الأطفال للحيوانات في الشوارع.
أكد الدكتور فتحي بن موسى، طبيب بيطري، أن انتشار الزرائب العشوائية يُعقّد مهمة السيطرة على الأمراض الحيوانية، مشيرًا إلى أن غياب الأسواق الرسمية يجعل من الصعب تتبع مصدر المواشي أو إجراء الفحوصات البيطرية اللازمة، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض بشكل أسرع وأوسع.

معركة مستمرة
أما عن وضع الحرس البلدي، فقد عبّر أحد عناصره عن الواقع بقوله: “نقوم بالحملات، نغلق بعض المحال، ولكنهم يعودون بعد أيام. نحن مثل لعبة القط والفأر.”
رغم اتخاذ السلطات بعض الإجراءات، مثل إغلاق أسواق بيع المواشي مؤقتًا وتشكيل غرف عمليات، إلا أن ضعف النظام البيطري، وتهريب المواشي عبر الحدود، وغياب الرقابة الدورية ونقص اللقاحات، جميعها جعلت من السيطرة على الأوبئة أمرًا بالغ الصعوبة.
حيّ مرآة للفشل
ما يجري في الحي الإسلامي ليس حالة استثنائية، بل مرآة مصغّرة لأزمة عمرانية وصحية واقتصادية تعصف بمدن ليبية كثيرة. الزرائب العشوائية وتفشي الأمراض وغياب المرافق ليست مجرد تفاصيل في مشهد فوضوي، بل نتائج مترابطة لانهيار التخطيط وغياب البدائل وتهرّب المؤسسات من مسؤولياتها.
وفي ظل هذا الانسحاب الرسمي، يُترك السكان لمصيرهم، بين أمهات يكافحن مثل نعيمة لحماية أطفالهن من الذباب والربو، ومربين محدودي الدخل لا يجدون مكانًا سوى أزقة الحي لإيواء حيواناتهم، وسكان يتأرجحون بين الغضب والتأقلم.
استراتيجيات البقاء
الفوضى ليست قدرًا محتومًا ثمة حلول تبدأ بالاعتراف بالمشكلة، وتمرّ عبر مقاربة عملية لا تكتفي بإزالة الزرائب بالقوة، بل توفر بدائل واقعية.
يمكن للبلديات مثلًا إنشاء أسواق مواشٍ ومسالخ مركزية مرخّصة خارج النطاق السكني، تُجهّز ببنى تحتية ملائمة وتُتاح بأسعار رمزية، بما يسمح للمربين بمزاولة نشاطهم دون التسبب بأذى بيئي.
تقديم حوافز انتقال أو تعويضات مالية للمربين المتعاونين، مقابل إزالة زرائبهم من داخل الأحياء السكنية حيث يحتاج السكان في المقابل إلى أدوات للمشاركة، عبر تشكيل لجان أهلية مدعومة من السلطات، تراقب الانتهاكات وتُبلغ عنها، بدلًا من الاكتفاء بالشكاوى المعزولة.
يستدعي ذلك أيضًا إعادة تفعيل دور الجهات البيطرية والبيئية، لضمان الرقابة الصحية على الذبح والتربية، وردم الفجوة المتسعة بين الدولة والمجتمع.
الزرائب هنا ليست فقط روثًا وروائح وصورًا صادمة، بل عرضٌ جانبي لأزمة أعمق في بلد تتقاطع فيه الحاجة الاقتصادية مع انهيار التخطيط، وتُترك فيه مدن مثل طرابلس لتواجه أزماتها بوسائل بدائية.
وبين الرغبة في البقاء والخوف من التلوث، تبقى أصوات مثل نعيمة شاهدة على مدينة تنهكها العشوائيات، وتبحث عن طريقة للعودة إلى الحياة لا أكثر.
Share this content: