« امرأة من بحر ليبيا .. صنعت مجدًا من ملح وكفاح »
الريس نجوى
قبطان الحلم الليبي من مرافئ الملح إلى ذرى المجد
في زاوية غير تقليدية من خارطة ريادة الأعمال الليبية، تقف امرأة اختارت أن تبدأ مشروعها من البحر، لا من البر.. من رائحة الملح والمصائد، إلى صدى خطوط الإنتاج وأصوات التعبئة والتغليف… كانت رحلتها ممتدة بين الأمومة والإدارة، بين الحلم والواقع، بين كفوف النساء العاملات وخيوط الأمل التي نسجت بها مشروعا وطنيا.
نجوى علي مصطفى الربيقي، مدير مصنع رايس الخمس لتعليب وحفظ الأسماك، والعلامات التجارية التابعة له: (الرايس، أسماك ليبيا، لبدة، نغم)، نموذج لسيدة اختارت أن تكون في قلب المعركة الإنتاجية بدلًا من الهتاف من بعيد. حوّلت الألم إلى إنتاج، والمرأة إلى شريكة، والحياة اليومية إلى تجربة اقتصادية واجتماعية ملهمة ومن مدينة البحر والجمال بمدينة الخمس كان لنا معها هذا الحوار الإنساني-الريادي، لنتعرّف على خبايا رحلتها، وتفاصيل مشروعها، ولنكشف الوجه الآخر من نساء ليبيا اللواتي لا يَظهرن كثيرًا، ولكن حين يظهرن… يُحدثن فرقًا.

<< حوار: عبير على أبو عافية
بداية، كيف وُلِدت فكرة إنشاء مصنع لتصنيع وتعليب الأسماك؟ وهل كانت هناك لحظات شكّ؟
الحقيقة أن الفكرة بدأت من حلم راود زوجي لسنوات طويلة. كان يرى أن ليبيا تملك ثروة بحرية غير مستغلة كما يجب، وكان يؤمن بإمكانية تحويل هذا المورد إلى مشروع وطني مستدام يخدم الناس ويعزّز الاقتصاد.
أنا من خلفية تعليمية، كنت معلمة، ولم أتخيل أن أكون يومًا في إدارة مصنع، ولكن عندما قررنا خوض هذا المشروع، شعرت أن من واجبي أن أكون جزءًا منه، ليس فقط كمساندة لزوجي، بل كمديرة تشغيلية كاملة للمصنع. تركت التعليم، لا تضحـيةً، بل إيمانًا برسالة المشروع.
رغم التحديات الأمنية والاقتصادية، وخاصة في تلك الفترة الحساسة التي كانت تمر بها البلاد، شعرت بمسؤولية مضاعفة، خصوصًا أن غالبية العاملات في المصنع من النساء. أردت أن أوفر لهنّ بيئة تحفظ كرامتهن، وتمنحهن فرصة حقيقية للإثبات والاستقلال.
كيف كانت ردود الفعل من المجتمع في البداية، خاصة كونكِ امرأة تدير مشروعًا صناعيًا؟
كنت منشغلة بإدارة المصنع والانغماس في تفاصيله، فلم أكن ألتفت كثيرًا لآراء الناس أو ردود أفعالهم. وجود زوجي في بداية المشوار أعطى نوعًا من الدعم، وربما منع بعض الانتقادات، ولكن
حتى وإن حصل كلام، لم يكن يعنيني.
أنا كنت واثقة مما أقوم به، أعرف هدفي وقيمة ما أقدمه. كنت أرى أن النجاح الحقيقي هو أن يفرض الإنسان احترامه من خلال عمله وليس كلامه، وهذا ما حصل.
مع الوقت، بدأ الجميع يلاحظ الفرق، ويتغير حتى خطاب من كانوا مترددين في قبول وجود امرأة في هذا المجال.
ما أصعب ما واجهتِه في تلك البدايات؟ التحديات المهنية أم الاجتماعية؟
التحديات كانت على الجبهتين، مهنيًا، فتح المصنع جاء في وقت صعب جدًا: البلاد تمرّ بأزمات، وانقطاع الكهرباء كان يوميًا، والمعدات تحتاج إلى بيئة مستقرة، خاصة وأننا نتعامل مع منتج حساس مثل الأسماك.
كان من الصعب حتى إقناع الأسواق بالحفاظ على المنتجات المجمدة، بسبب سوء التخزين وانقطاع الكهرباء، فواجهنا عزوفًا أحيانًا أو شكاوى. أما اجتماعيًا، فقد كان من الصعب إقناع بعض الأسر بأن تعمل بناتهنّ في مصنع. تغلبنا على ذلك بالثقة، والصدق، بإيجاد بيئة عمل نظيفة وآمنة ومحترمة.

كيف تقيمين تجربتك كامرأة ليبية تقود مصنعًا في بيئة محافظة؟
أعتبرها تجربة تغيير حقيقية. كنت حريصة على أن يكون المصنع بيئة تحتضن الجميع، خصوصًا النساء. أردت أن يكون أكثر من مجرد مكان للإنتاج؛ أردته مجتمعًا صغيرًا، نحترم فيه بعضنا، ننجح معًا، ونتجاوز الصعوبات كتفًا بكتف.
المرأة الليبية قادرة على القيادة، وبوعيها وشجاعتها يمكن أن تقود أي مشروع بنجاح، حتى في بيئات صعبة. لم أسعَ لإثبات نفسي، فقط تركت العمل يتحدث عني.
ما الذي يميز طريقتك في الإدارة؟ وهل ترين أن للمرأة أسلوبًا مختلفًا في القيادة؟
أسلوبي إداري بسيط وإنساني. أتعامل مع العاملات والعمال كأننا عائلة واحدة. أشاركهم التفاصيل الصغيرة، أستمع لهم، أؤمن أن صوت كل فرد مهم.
المرأة عمومًا تتميز بحسّها الإنساني العالي، وقدرتها على الجمع بين الحزم والرحمة، وهذا ما حاولت تجسيده في إدارتي للمصنع.
في بيئة عمل مختلطة، كيف استطعتِ فرض الاحترام والثقة؟
أسّسنا بيئة تقوم على الاحترام المتبادل. لا فرق بين رجل وامرأة في المصنع، الكل له نفس المكانة ونفس الواجب. أتعامل مع الجميع كأنهم إخوتي وأبنائي. نحن عائلة، نعمل معًا، ننجح معًا.
الاحترام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالعدالة، والصدق، والمثال الحي.
لماذا قررتِ تشغيل الأرامل والنساء من ذوي الدخل المحدود؟ هل كان بدافع شخصي؟
نعم، كان بدافع إنساني بحت. كنت أرى في عيون الكثير من النساء احتياجًا لا يُعبرن عنه. أرامل، مطلقات، غير متعلمات… نساء لم تُعطَ لهنّ فرصة فقط لأن المجتمع لم يلتفت لهن.
أنا مؤمنة أن أي امرأة، مهما كان مستواها التعليمي، يمكن أن تنجح إذا أُعطيت الفرصة الصحيحة. المصنع فتح أبوابه لهن، وأثبتن أنهن قادرات على التميّز، بل والتفوق.
. كيف أثّر هذا الفريق النسائي على بيئة العمل؟
وجود النساء منح المصنع روحًا خاصة. الالتزام، الدقة، النظافة، وحتى العلاقات الإنسانية تغيّرت. النساء عندما يشعرن بالأمان والدعم، يصبحن مصدر قوة حقيقية لأي مشروع.
الجو العام في المصنع أصبح أقرب إلى أسرة كبيرة، فيها دعم وتعاون وثقة.
هل هناك قصة مؤثرة لعاملة تغيّرت حياتها بعد العمل في المصنع؟
هناك كثير من القصص، لكن إحدى القصص القريبة لقلبي هي لسيدة كانت أرملة شابة، دون شهادة، ولديها طفلان. كانت خائفة ومترددة، واليوم أصبحت من أكثر العاملات كفاءة، وتشرف على قسم كامل. حياتها تغيرت، وثقتها بنفسها تضاعفت

نساء من بحر الصبر:
مصنعٌ تحول إلى عائلة والأرامل صرن قائدات أقسام
كيف بدأتم التسويق خارج المدينة؟ وهل هناك خطط توسّع مستقبلية؟
بدأنا بخطوات بسيطة، وزعنا منتجاتنا بأنفسنا على المحال، وكنا نراهن على الجودة. والحمد لله، كسبنا ثقة السوق تدريجيًا، ووصلنا إلى أسواق خارجية مثل تونس، تركيا، وهونغ كونغ.
لدينا خطط للتوسّع إقليميًا وعالميًا، ونطمح أن تكون منتجاتنا علامة ليبية متميزة في العالم.
ما الذي يميز منتجكم عن غيره في السوق المحلي والإقليمي؟
منتجنا ليبي، وبجودة عالية توازي العالمية. نحرص على النظافة، التجميد السليم، الطعم، والتغليف العصري. والأهم أن أيادٍ ليبية تصنعه بإخلاص.
هل واجهتم عراقيل بيروقراطية أو لوجيستية؟
بالتأكيد، واجهنا تحديات مثل النقل، الروتين الإداري، وتفاوت ظروف التخزين في مناطق مختلفة. لكننا نحاول دائمًا أن نجد حلولاً مرنة وواقعية، ونبني علاقات جيدة مع الجميع لتسهيل العمل.
من هي المرأة التي ألهمتكِ؟ وهل حصلتِ على دعم نسائي؟
مصدر إلهامي الحقيقي هنّ العاملات في المصنع، نساء من كل الخلفيات، لكن كل واحدة منهن أثبتت أنها بطلة في قصتها. أما الدعم، فقد كان من عائلتي أولاً، ومن النساء اللواتي آمنّ بالمشروع مثلي.
ما الذي تقولينه لكل سيدة لديها حلم لكنها تخاف من نظرة المجتمع؟
أقول لها: لا تخافي. اشتغلي، ثابري، واحترمي نفسك والناس ستحترمك. المجتمع تغيّر، والناس تحترم المجتهد، خصوصًا عندما يرى صدقك. كوني قوية، ولا تسمحي لأحد أن يسلب منكِ حلمكِ

لو لم تكوني مديرة مصنع، ماذا كنتِ تتمنين أن تعملي ؟
ربما كنت سأكون مديرة مدرسة. أحب التنظيم، وأحب أن أكون جزءًا من صنع التغيير في حياة الآخرين، سواء في التعليم أو في إي مجال آخر العمل.
كيف ترين مستقبل المشروع خلال الخمس سنوات القادمة؟
نحن اليوم مجموعة قابضة، وخطتنا هي التحوّل إلى لاعب إقليمي في قطاع الأغذية البحرية. نركز على الابتكار، الجودة، والاستدامة، ونستهدف شراكات استراتيجية في عدة دول.
وأخيرًا، ماذا يعني لكِ المصنع؟
المصنع هو حياتي الثانية. ليس فقط مكان عمل، بل قصة عمر، وشغف، وأمل مشترك. كل من فيه هو جزء من عائلتي، وكل نجاح نحققه هو شهادة أن التعب والإخلاص لا يضيعان.
Share this content: