×

الهويـة الليبيــة لم تـؤثر علــى كتابــاتي والمناخ السياسي والاجتماعي كان الأكثر حضوراً

الهويـة الليبيــة لم تـؤثر علــى كتابــاتي والمناخ السياسي والاجتماعي كان الأكثر حضوراً

        حين نقرأ عمر الككلي، لا نقرأ سرداً محضاً، بل نلج عوالم تتقاطع فيها التجربة الفردية مع الهم الجمعي، حيث اللغة ليست مجرد وسيطٍ، بل كائنٌ حيٌّ يتنفس داخل النص، يتشكل ويتحول، يقترب من اليومي ليغزله  في نسيج جمالي كثيف. إنه كاتبٌ لا يهادن، لا في رؤيته للواقع، ولا في تعامله مع أدواته الفنية، فالقصة عنده ليست مجرد حكاية تُروى، بل موقفٌ من العالم، ومغامرةٌ في البحث عن أبعادٍ أخرى للحقيقة.

عمر‭ ‬الككلي‭:

  السردُ‭ ‬كفعلِ‭ ‬مقاومةٍ‭ 

  ‬والتجريبُ‭ ‬كبحثٍ‭ ‬عن‭ ‬جوهر‭ ‬القصة

  في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار،‭ ‬نحاول‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬عمر‭ ‬الككلي،‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والسرد‭ .. ‬الفلسفة‭ ‬والتجربة،‭ ‬

    أجرت‭  ‬الحوار‭  :  ‬نجاح‭ ‬محمد

    إشراف‭ : ‬مصطفى‭ ‬حمودة

كيف يرى الكتابة؟ وهل هي فعل مقاومةٍ أم تصالح؟ ما الذي تغيّر في القصة القصيرة؟ وكيف يمكن للأدب أن يظل قادراً على زحزحة اليقينيات وتقديم رؤى جديدة للعالم؟

كيف ترى العلاقة بين السرد كفعل إنساني متجذر في الحياة اليومية وبين السرد كإبداع أدبي؟

فعلاً، السرد فعل إنساني متجذر في الحياة اليومية، مثلما عبرتِ، وفي هذه الحالة إذا ما حصرنا حديثنا في القصة والرواية الواقعية،فالعلاقة وطيدة ومثل هذه الأشكال الأدبية تمتح من الحياة الواقعية، بيد أن الكاتب يجري على هذا الواقع ما أحب أن أسميه «تقطيراً جمالياً» بحيث يحول الواقع من مادة خام إلى عمل يوصف بأنه فني جمالي، أي إبداع أدبي. والحقيقة أن كثيراً من آليات السرد في الحياة اليومية تجدينها في الأعمال السردية الأدبية.

في أعمالك، كيف تتعامل مع اللغة كوسيط للسرد؟ هل ترى اللغة خادمة للسرد أم شريكاً في بناء النص؟

أنا لدىّ تصور حول هذه المسألة، قد يعاني قدراً من الغموض، وهو أن اللغة في الأعمال السردية الأدبية ليست وسيطاً إيصالياً أو تواصلياً، وإنما هي طرف، أو شريك مثلما عبرتِ، لأن الأعمال السردية الأدبية، مهما كانت وفية للواقع، هي أعمال رمزية جمالية وليست واقعاً. وبالتالي تكون اللغة شخصية، إذا جاز التعبير، من شخصيات العمل السردي الإبداعي، بل وأكثر شخصيات العمل بروزاً وفاععلية.

لا‭ ‬يمكنك‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬أدبية‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬لدى‭ ‬

الكتاب‭ ‬المتماهين‭ ‬مع‭ ‬السلطتين‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية

هل تعتقد أن القصة القصيرة قادرة على استيعاب الأبعاد الفلسفية والوجودية بنفس القوة التي تستوعبها الرواية؟

نعم، أعتقد هذا. لكن المهم ألا تتحول القصة، أو الرواية، إلى عمل فلسفي صريح، الفلسفة ينبغي أن يستخلصها القارىء من مجمل العمل، أن تكون بين السطور مثلما يقال، أصارحك، أنا لم تعجبني رواية الكاتب النرويجي جوستاين غاردر((عالم صوفي)) ولم أستطع إكمال قراءتها. فأنا أريد أن أقرأ عملا إبداعيا جماليا وليس عملاً فلسفياً. في الأعمال الإبداعية ما يهمني هو المتعة الجمالية وليس اكتساب ثقافة في مجال آخر. إذا رغبت أن أقرأ فلسفة صريحة أقرؤها في كتب الفلسفة.

عند العودة إلى إصداراتك الأولى، هل تجد أن هناك سرديات أو موضوعات كنت تعتقد أنها “جديدة”، أصبحت اليوم متجاوزة؟

هذا سؤال مخاتل! عندما بدأنا أنا وقصاصي جيلي، سواء في ليبيا أو على مستوى المنطقة العربية، كنا مجددين فعلاً ومغامرين في التجريب. هل تم تجاوزها أم لا ..؟ سؤال لا أستطيع الإجابة عليه إجابة جازمة، لكن يمكن القول إن التطور قانون شامل، حدث تطور في هذا الشأن في الكتابات القصصية والروائية، نحن أنفسنا طورنا من كتابتنا. لكن يبدو لي أن «التطور» يختلف عن «التجاوز»، الأول مسار تراكمي. بينما الثاني يعني قطيعة.

كيف تتعامل مع النقد الذي يتحدث عن “تطور” الكاتب مع كل إصدار؟ هل ترى التطور شرطاً إبداعياً؟

الإجابة على هذا السؤال متضمنة في إجابة السؤال السابق، لكن أضيف، نعم. ينبغي على الكاتب المبدع أن يجتهد في تطوير ثقافته وإمكاناته، ومن ثم أدبه.

كيف ترى تأثير الهوية الليبية، بكل ما تحمله من تعددية وتعقيد، على مفهوم الاختلاف في أعمالك؟

أحب أن أكون صريحاً دائماً، لم تؤثر «الهوية الليبية» على كتاباتي من حيث الملامح الظاهرة المباشرة مثلما كان الشأن في بدايات القصة الليبية حتى نهاية الستينيات، هذا الأمر لا أختص به وحدي، لكن يشترك فيه معظم كتاب القصة من جيلي، جيل السبعينيات، واسمحي لي هنا أن أقتبس بهذا الخصوص فقرة من مقالي «مسيرة القصة القصيرة الليبية»:

أما قصص الكتّاب الذين ظهروا مع نهاية الستينيات وبداية عقد السبعينيات فصارت قصصهم تنحو أكثر فأكثر نحو استلهام مواضيعها من الطبقة البرجوازية الصغيرة، المثقفة غالباً، وصار مناخ القمع في بعديه الاجتماعي والسياسي (أو لعله قمع اجتماعي مدعوم سياسياً) هو الأبرز حضوراً فيها. ودخل كتابها في مغامرات تجريبية تنتمي إلى الكتابة الحداثية.. وهذا يعني أن التأثير أصبح للمناخ السياسي والاجتماعي، وليس للهوية.

هل الكتابة بالنسبة لك أداة للكشف عما لم يُحكَ، أم أنها عملية إعادة تشكيل لما تم حكايته مراراً وتكراراً؟

من الصعب أن يحدد المرء ما لم يحكَ. ولعل نظرية التناص أثبتت تشابك النصوص بدون معرفة أو وعي من الكاتب. ولكن أطمح بالطبع إلى أن يكون في أعمالي «ما لم يحكَ».

 في ضوء التحولات الاجتماعية والسياسية في ليبيا، كيف يمكن للأدب أن يقدم سرديات بديلة بعيداً عن الخطابات الرسمية أو الشعبية؟

 دائما كان الأدب «الحقيقي» منفصلاً عن الخطابات الرسمية أو الشعبية. ولهذا يتعرض الأدباء لمصادرة أعمالهم واضطهادهم في الأنظمة والمجتمعات القمعية. لا يمكنك العثور على أعمال أدبية ذات قيمة لدى الكتاب المتماهين مع السلطتين السياسية والاجتماعية. دائماً يحتوي الأدب الحقيقي على قدر من التمرد، بما في ذلك التمرد على تقاليد الكتابة الإبداعية ذاتها، ومن هنا تكتسب صفة «الإبداع» جدارتها.

9– كيف تتعامل مع البعد الفردي في أعمالك مقابل البعد الجمعي؟ هل ترى السرد وسيلة لتوثيق التجربة الفردية أم الجماعية؟

 في أعمالي لا يظهر البعد الجماعي. هي ألصق بالفرد، مثلما أوضحت في إجابتي عن سؤال الهوية. لكن أعتقد أن البعد الجماعي موجود على نحو ما، فالإنسان لا يكون منعزلاً إلا في مجتمع، مثلما يعبر ماركس.

كيف تتصور مستقبل القصة القصيرة في ظل التحولات الرقمية؟ وهل ترى أن الشكل السردي للقصة القصيرة يتطور مع الزمن أم يحافظ على أسسه؟

 هذه مسألة شائكة ومقلقة أيضاً. أنا متخوف من تأثير الذكاء الاصطناعي على الكتابة الإبداعية. وبشأن الحفاظ على الأسس أعتقد أن ثمة أسسا ستظل عائشة. فأنت لا يمكنك كتابة قصة تخلو، مثلاً، من وجود حدث ومن الوصف ومن الشخصية حتى ولو كانت مظهراً من مظاهر الطبيعة أو حيواناً.

هل ترى الكتابة نوعاً من مواجهة الوجود؟ وهل هي فعل مقاومة، أم تصالح؟

نعم، هي مواجهة للوجود بمعنى الكلمة، وبالتالي هي فعل مقاومة، والتصالح يكون مع الذات وليس مع الوجود. مع الوجود قد توجد فترات هدنة تكتيكية، عمليات مناورة، ولكن ليس تصالحاً استرتيجياً.

يبدو أن مجموعاتك القصصية مثل “منابت الحنظل” و “الشيء الذي ينأى”  تستحضر عوالم مختلفة.. هل هناك رابط موضوعي أو فكري يجمع بين هذه الأعمال؟

هذه مسألة من اختصاص النقاد. ليس مطلوباً من الكاتب إبراز جوانب نقدية في أعماله.

في ظل تجربتك، هل ترى القصة القصيرة قادرة على تقديم “الحقيقة الكبرى” بشكل مكثف وموجز؟

 وهل ثمة «حقيقة كبرى»؟!. أنا لا أعتقد ذلك، كما أني لا أبالغ في دور الأدب، الأدب أكثر تواضعاً من ذلك، وهذا لا ينقص من قيمته وأهميته.

 تجربة السجن كانت محورية خاصة في مجموعتك القصصية “سجنيات” التي  تركز على التفاصيل اليومية والمعاناة الإنسانية، بأسلوب الكتابة الشذرية الجامعة بين التخييل والواقع  إلى أي مدى لازالت تلاحق تلك التجربة نصوصك؟

يبدو لي أن الشحنة الخاصة بتجربة السجن قد أفرغت في هذا العمل، ولم يعد السجن يظهر في أعمالي.

هل لازالت الكتابة كأداة تغيير تحقق منجزا  في نقد الواقع السياسي؟

اسمحي لي أن أبدي تحفظي على تعبير «أداة تغيير». ربما الأنسب القول إنها «أداة تنبيه» وليس حتى توعية، وهذا الدور يرتبط، أكثر ما يرتبط، بالكتابات غير الأدبية.

هل تعتقد أن المقالات تضيف شيئاً خاصاً إلى تجربة الكاتب الأدبية ؟وكيف تؤثر هذه الكتابة على تطورك ككاتب قصصي؟

 هذه قضية شائكة إلى حد ما. فالتزام الكاتب المبدع بكتابة مقال في موعد ثابت قد يسرقه من الانصراف الكلي إلى إبداعه لأنه يحتاج إلى إنفاق جهد في القراءة في مجالات أخرى غير المجالات الإبداعية وحتى متابعة التلفزيون والراديو للتوفر على مخزون ثقافي يغذي منه مقالاته. لكنني، من جانب آخر، أعتقد أن هذا التحصيل يؤثر على كتابته الإبداعية إيجابياً عندما يمارسها.

 “هبة الشك” و”الأرض المحصورة” تحملان عناوين تعكس قلقاً وجودياً ربما. كيف تعكس هذه العناوين محتوى العمل؟

هذه أيضا مسألة من اختصاص المتلقي!

هل ترى النشر الإلكتروني بديلاً حقيقياً للنشر الورقي؟

أنا نادرا ما قرأت كتابا كاملا على الشاشة. عندما كانت لديّ طابعة كنت أستخرج الكتب على الورق. وفي غيبة الطابعة أضطر عند الضرورة إلى استخراجها في محل طباعة. وهذا مكلف.

ما هي المشاريع القادمة التي تعمل عليها؟ وهل تفكر في خوض تجربة نوع أدبي جديد؟

 ثمة مشاريع أعمال قصصية لم يتوفر لي المناخ النفسي لكتابتها. أنا بطبعي مقل ولست عجولا. لكن في هذا العمر ينبغي أن يكون لديّ بعض الاستعجال.

 كيف تحب أن يتفاعل القراء مع أعمالك؟

أنا مع مقولة «موت المؤلف». بعد أن تطرح أعمالي للقراء لا تعود لي أية سلطة عليها. أصبح، يمكنني القول، قارئا لها.

كيف تجلى البعد السياسي والاجتماعي في قصصك هل كان سرداً ظاهرياً أم تلميحاً ضمنيا؟ وهل ترى أن الأدب يمكنه أن يكون أداة لتفكيك الهياكل الثقافية والسياسية أم أنه انعكاس لحالة المجتمع فقط؟

أرى أنه مادمنا نعيش في مجتمع وفي دولة فلا مفر من حضور السياسة بشكل ما. فقصة تتحدث، مثلاً، عن لقاء عاشقين في مجتمع محافظ ودولة ذات نظام متزمت تعتبر عملاً سياسياً بامتياز.

بالنسبة إليَّ يتخذ حضور السياسة في أعمالي تجليات متباينة القوة، من الإضمار إلى العلن. لا أريد هنا أن أضرب أمثلة. لكنني أحب أن أضيف أن الحضور السياسي في عمل قصصي ما قد يولده المتلقي دون أن يكون حاضراً في ذهن الكاتب أثناء الكتابة. لديّ قصة كتبت ونشرت قبل نهاية السبعينيات عنوانها «القفزة» اعتبرها أحمد إبراهيم منصور وغيره محرضة على التمرد والثورة (ضد النظام طبعا) ولم يكن هذا ماثلاً في ذهني. هناك طبعاً الذهنية الأمنية، سواء كان القارىء عاملاً في السلك الأمني أم لا، التي تفترض أن أي عمل ينطوي على رموز سياسية ينبغي اكتشافها فيلجؤون إلى تأويلات غريبة.

في الكتابة القصصية هناك دوما صراع بين الواقع والمخيلة..بين ما هو مُعاش وما هو متخيَّل. برأيك، هل القصة القصيرة انعكاس للحقيقة أم أنها خيانة جميلة لها؟ وهل يمكن أن يكون الخيال في القصة أكثر صدقاً من الواقع ذاته..؟

ينبغي الإقرار، أولا، بأن الأعمال الأدبية والفنية، مهما كان التصاقها بالواقع، هي رمز وليست واقعا. وإذن ليس ثمة صراع بينالواقع والمخيلة، ذلك أن الواقع يمثلالمادة الخاموالقصاص أو الروائي يشتغل على تحويل هذه المادة الخام إلى عمل أدبي جمالي من خلال عمليات حذف وإضافة وتعديل، أي ما أحب أن أسميهعملية تقطير جمالييشترك فيها الجانبالحِرفيمع الحس الذوقي والوجداني والمخزون الثقافي والمعرفي، وهنا يدخل عنصر، ما أحب أن أسميه، أيضا،التخييلوليسالخيال، أي حفز ملكة التخيل لدى المتلقي. وبذا لايمكنني القول بأنالقصة القصيرة انعكاس للحقيقةوإنما هي، وبمعنى ما، انعكاس للواقع، ذلك أن الواقع حافل بالحقائق، وليس بحقية واحدة مفردة، وهذه الحقائق لا توجد منكشفة في الواقع، وإنما تكون غالبا متخفية، أو كما يعبر الحسن بن الهيثمالحقائق منغمسة في الشبهات“. وإذن ما يكون في القصة أو الرواية هو واقع آخر حافل بحقائق أخرى تكون متخفية هي أيضا ومنغمسة في الشبهات. هذا الواقع هوواقع فني جمالييرتبط بالواقع الأصلي بطريقة غير مباشرة. ففي رأيي يظل العمل الأدبي، ومهما أمعن فيالخيالذا صلة ما، وإن تكن خفية، بواقع مُنجِزِه، ولا ينشأ من عدم, وهنا أعود إلى مسألة الخيانة. نعم. القصة تخون الواقع، وليس الحقيقة، مع واقع آخر هوواقع تخييلي“.

Share this content:

إرسال التعليق