القبيلة والدولة المدنية
من سرديات المجد القبلي إلى سؤال الدولة الحديثة :
هل نستطيع تجاوز الموروث؟
بين واقع نعيشه من عبق الماضي وبين آمال وتطلعات ملحة لمستقبل قادم ، نجبر على التعامل بين نقيضين كلُ منهما له من التأثير المجتمعي ما يؤهله ليتصدر المشهد القادم للدولة الليبية بكل الجوانب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وحتى أمنيا ، ولكل منهما اتجاه يمضي فيه ولا يتوازى مع الآخر إلا في الدعوات بضرورة التوافق والتقارب وجعل النقيضين طرفين متوازيين يرسما مستقبل الأجيال القادمة ،فلربما يكون من المستحيل أن نكون قادرين على وأد الماضي، إذا ما تداخلت مكوناته مع مستقبل آت لدولة مدنية نطمح أن تكون حاضرة اليوم .
الـــولاء للنســــب أم الدستــــور مــن يرســـم خـــــــارطـــــة المستقبــــل الليبـــــي ؟!
استطلاع : هدى ميرة
القبيلة والدولة المدنية ..
فكيف يمكن التوفيق بين الانتماء للقبيلة ومتطلبات الدولة المدنية ؟
وكلاهما يتناقض مع الآخر في علاقة عكسية ، ولكل منهما زمان ، والتلاقي ربما لا يكون الا عبر بوابات الزمن الافتراضي ، فقد كانت القبيلة نظاماً متكاملاً مترابطاً قوياً ومتيناً ليس من السهل اختراقه ، نظام له أسس وقوانين تحددها الأعراف وتنظم حياة الأفراد من أبنائها أولئك الذين ولدوا تحت عباءتها وهي المسؤول عن رعايتهم وحمايتهم ، ولا ننكر وجود هذا الجسد وفاعليته في مرحلة من التاريخ الليبي ، لكنه لم ولن يمت فمازال يتنفس في وجه الدولة المدنية أو الحديثة دولة المؤسسات والقانون والعدالة وصون الحريات وحقوق الإنسان واحترام الآخر وإن اختلفنا معه في فكر أو دين أو رأي ،دولة مدنية ركائزها القانون وليس وتد خيمة تهزه الرياح تارة ،ويستند عليه الفارون من جرم ارتكبوه تارة أخرى .

ثنائيات متناقضة
القبيلة كذاكرة لا كسلطة… والمواطنـة كعقــد لا كهويــة
يقول الأستاذ الاعلامي جمال الزائدي .لأنه مجال للتعايش بين الدولة الحديثة وبين القبيلة..والصراع بينهما غير قابل لأية تسوية ،إذ لابد أن ينتهي بسحق أحدهما للآخر .. ببساطة لأن العلاقة بين الدولة والقبلية يمكن تلخيصها في هذه الثنائيات المتضادة : – الدولة تتطلب الكفاءة ،و القبيلة تتطلب القرابة
الدولة تتطلب الجدارة والقبيلة تتطلب الولاء
الدولة تتوخى توطيد ممكنات المستقبل، القبيلة تتوخى ترسيخ جذورها في الماضي ..
وإذا حدث تحت ظرف استثنائي شاذ أن تعايشت الدولة والقبيلة
ستهيمن القبيلة على الدولة، وتحول مؤسساتها إلى امتداد لعلاقاتها الاجتماعية ومن ثم يتحول الفساد من سلوك فردي إلى منظومة سلوكية، لأن كل مسؤول يحتمي بقبيلته. وفي آخر المطاف تلغى فكرة المواطنة لصالح العصبية القبلية لإن بقاء القبيلة يعني بالضرورة غياب الدولة الوطنية ..
معركة الوعي الليبي المؤجلة
في الدولة الحديثة ضلع المثلث الأهم هو الشعب الذي يتكون من مجموع مواطنين أفراد، يخضعون بإرادتهم الحرة لعقد اجتماعي يحدد طبيعة علاقاتهم وينص على حزمة الواجبات والحقوق التي تربطهم بكيان الدولة الافتراضي ..
لذلك فكيان القبيلة التي هي رابطة طبيعية قائمة على قرابة الدم يتناقض عمليا ونظريا مع الدولة بمفهومها المعاصر .. ففي ظل القبيلة انتماء وولاء الفرد الأساسى يتوجه لعشيرته وقبيلته على أساس رابط القرابة الاجتماعية..بينما الدولة المدنية المعاصرة تتطلب انتماءاً وولاءاً مطلقاً من المواطن / الفرد ، لدستورها وقوانينها ومؤسساتها..
امكانية توافق مشروطة

الأستاذ عاشور شكوي وهو إعلامي متخصص في الشأن السياسي توقع بامكانية التعايش المشروط بين نقيضين فقال :
تسعى الدولة الحديثة إلى ترسيخ الهوية الوطنية ، التي تعتمد على مفهوم المواطنة الشاملة ، تقاوم القبلية هذه الجهود من خلال الحفاظ على هياكلها التقليدية ، والعلاقات الاجتماعية الخاصة بها ، وهذا التناقض يؤدي إلى نوع من الازدواجية ، في ولاء الأفراد ،حيث يكونون مطالبين بالالتزام بالهوية الوطنية ، ولكنهم يجدون أنفسهم منجذبين نحو القبيلة كمصدر رئيس للهوية».
وبتسليط الضوء على الواقع الليبي ، فإن الولاء للقبيلة ليس عيباً في بناء الدولة، بل قد يكون صمام أمان ورافعة وعي إذا ما ضُبط بالقانون، وربط قيمه بالأخلاق لا بالأسماء.
وما نراه خلال العقد والنصف الأخير في ليبيا أظهر أن الولاءات القبلية ليست قائمة على الكفاءة والوطنية ، بل على النسب والجذور الضيقة ، وهو ما يُمثل خيانة مزدوجة: للوطن من جهة، وللقبيلة من جهة أخرى..كما أن استمرار التزكيات الوراثية يُعيد إنتاج الجاهلية بصيغة ديمقراطية مزعومة.
فالقبيلة يجب أن تصبح حاضنة للكفاءات لا حارسة للولاءات الضيقة..وهنا لا ندعو إلى إقصاء القبيلة، بل تحريرها من العصبية، وربطها بمشروع وطني جامع، يُعيد تعريف التمثيل القبلي وفق معيار الكفاءة، لا الولاء الضيق المرتبط بمفاهيم ومعايير تقليدية تعيق بناء الدولة الوطنية.
ولتحقيق مقاربة واقعية في ليبيا ، بين الهوية القبلية والهوية والوطنية ، لابد من إعداد وثيقة وطنية للولاء والهوية ، تعمل على إصلاح المؤسسات المدنية لتستعيد دورها كممثل حقيقي للشعب ،وإطلاق معهد برلماني لتأهيل من يُنتخبون سياسياً وتشريعياً.

القبيلة والدولة الضائعة.
الناشط والمحلل السياسي زكريا نمر من دولة السودان تواصلنا معه حول هذا الموضوع فقال:
القبيلة لا تبني الدولة، فهي وإن كانت مظلة اجتماعية تحفظ الفرد من برد العزلة وتمنحه شعور الانتماء، إلا أنها حين تتجاوز حدودها لتتحول إلى سلطة، تصبح عبئا على فكرة الدولة نفسها. فالقبيلة حين ترفع رايتها فوق راية الوطن، ينكمش العقل وتتسع مساحة التعصب، ويغدو الدم مقياسًا للحق، لا الكفاءة أو العدالة.
القبيلة لم ولن تمت
فما زالت تتنفس في وجه الدولة المدنية
في المجتمعات التي لم تكتمل فيها فكرة الدولة الحديثة بعد، تتحول القبيلة من كيان اجتماعي إلى أداة للهيمنة، ومن رابطة إنسانية إلى جدار يفصل المواطن عن مواطنته.وتكمن الكارثة الكبرى أن الولاء للقبيلة يصبح أقوى من الولاء للوطن، وأن السلطة تتحول إلى غنيمة توزع بالقرابة لا بالاستحقاق. تظهر تجربة جنوب السودان بجلاء كيف مزقت الولاءات القبلية نسيج الدولة الوليدة. لم تكن المشكلة في التعدد، فالتنوع في حد ذاته ثروة، بل في أن النخبة الحاكمة حولت الانتماء القبلي إلى سلاح سياسي، فباتت المناصب توزع حسب القبيلة، لا وفق الكفاءة أو الرؤية الوطنية. انهارت المؤسسات، وتراجع القانون، واستبدلت الدولة الحديثة بشبكة من الولاءات الضيقة، كل واحدة منها تحرس حدود مصالحها وتنتظر لحظة الانتقام.
ويكمل قوله.. الاعتماد على القبيلة في بناء الدولة يشبه محاولة تشييد بيت من الطين وسط العاصفة. لا القبيلة تملك أدوات التخطيط، ولا روحها المغلقة تصلح لقيادة مجتمع متنوع ومعقد. الدولة الحديثة لا تُبنى بالعاطفة، بل بالمؤسسات، بالقانون، بالمواطنة المتساوية. الدولة التي تبنى على الولاءات القبلية تولد مشوهة، تعيش في حالة دائمة من الانقسام، وتفقد قدرتها على أن تكون مرجعا جامعا للجميع. لكن لا أحد يدعو إلى محو القبيلة أو إنكار دورها الاجتماعي. القبيلة جزء من الذاكرة الثقافية، من المرويات الشفاهية، من القيم التي تحفظ التماسك الإنساني. إنما الخطر يبدأ حين تتضخم هذه الهوية لتبتلع كل ما حولها، فتتحول من موروث ثقافي إلى أداة إقصاء. ما نحتاجه ليس إلغاء القبيلة، بل إعادة وضعها في حجمها الطبيعي: كجذر ثقافي لا كمنصة حكم .
لا تأثير سلبي
الأستاذ مفتاح المصباحي رأى بأن الانتماء للقبيلة من حيث الارتباط الاجتماعي والمحافظة على منظومة القيم والأخلاق، وذلك لا تأثير سلبي له على دولة القانون والمؤسسات «الدولة المدنية»، بل يدعمها، بالتزام كل فرد بما له من حقوق وما عليه من واجبات،، والمخطيء والمفسد والمجرم، تعاقبه القبيلة بالنبذ، كما تعاقبه الدولة بالقانون..

إطار اجتماعي
السيد وسام الرابطي رأى أن الانتماء القبلي ماهو إلا إطار اجتماعي ليس أكثر
إنما الانتماء الوطني هو الجوهر الذي يعد اأساس بناء الدولة ومن خلاله يتم صياغة دستور بناء الدولة وفق معايير عقائدية واجتماعية وأخلاقية بعيدا عن أي توجهات اأو محصصات قبلية .
يظل الجدل قائما بين نقيضين « الدولة والقبيلة » لمن الانتماء في زمننا الحاضر ، في تجارب إنسانية مثل دولة روندا وبعد الحرب الأهلية 1994 تخلصت من سيطرة القبيلة لتقام دولة المواطنة والقانون مع تأثير خجول للقبيلة ، ولكن تيبرز في دول الخليج العربي ولبنان وبعض دول الشمال الإفريقي أثر القبيلة المتوافقة مع الدولة المدنية ، قد تكون العقود القادمة شاهدا على اندثار إحداهما ليكون الأخر .وربما يكون التقارب واقعاً تتعايش معه الأجيال القادمة .
القبيلة إذاً ليست عدوا، « كما يقول زكريا نمر « لكنها حين تتجاوز مكانها الطبيعي، تصبح رمزا للتخلف السياسي والاجتماعي. أن تحارب باسمها يعني أنك ترفض التفكير، وأنك لم تدرك بعد أن العالم تجاوز هذه الدائرة منذ قرون. الوطن لا يُبنى بالعاطفة الجهوية ولا بالميراث القبلي، بل بالوعي الجماعي، بالقدرة على التعايش
عندما نفكر في المستقبل، يجب أن نفكر في دولة المواطن، لا دولة القبيلة. الدولة التي تحكمها الكفاءة لا القرابة، القانون لا الولاء، العقل لا العاطفة. فبغير ذلك، سنظل ندور في الحلقة ذاتها جيل يزرع الانقسام، وآخر يحصد الخراب.
القبيلة يمكن أن تبقى كذاكرة، كهوية اجتماعية تمنح الناس دفء الانتماء، لكنها لا تصنع الحاضر ولا تبني المستقبل. الدولة الحديثة لا تحتاج إلى رابطة دم، بل إلى عقد اجتماعي حر يربط الناس بالقانون. حين يصل الوعي إلى هذا المستوى، يصبح واضحًا أن القبيلة ليست قدرًا، بل مرحلة يمكن تجاوزها، وأن الوطن لا يُحفظ بالدم، بل يُبنى بالعدالة والمساواة والرؤية.
Share this content: