الإبداع الفزّاني بين الإهمال والضوء الغائب:
رغم ما تزخر به فزّان من كتّاب وباحثين ومؤرخين قدّموا أعمالًا ذات قيمة فكرية وأدبية عالية، فإن كثيرًا من هذه الأعمال ما يزال حبيس الأدراج، لم يرَ النور بعد.
سنوات طويلة مضت دون أن تحظى هذه المؤلفات بفرصة النشر أو الدعم الرسمي، بسبب غياب سياسة ثقافية واضحة، وتقصير من الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارة الثقافة ومكاتبها في الجنوب.
الإبداع الفزّاني بين الإهمال والضوء الغائب:

حين يكتب الجنوب ولا يُقرأ
استطلاع : عزيزة حسين
يجد الكاتب الفزّاني نفسه اليوم في معركة صامتة، لا ضد الرقابة الفكرية، بل ضد الإهمال الإداري والبيروقراطية والتهميش المتواصل للمشهد الثقافي في الجنوب، الذي حرم المكتبة الوطنية من كنوز فكرية وأدبية قادرة على توثيق مراحل مهمة من تاريخ المنطقة وصياغة وعي ثقافي يعكس خصوصية فزّان وعمقها الحضاري.
أمام هذا الواقع، تُطرح أسئلة كثيرة حول دور المؤسسات الرسمية في دعم الإبداع الفزّاني، ومسؤوليتها في إنصاف المبدعين الذين ظلّوا خارج دائرة الضوء، كما تُثار تساؤلات حول البدائل الممكنة لإنقاذ ما تبقّى من ذاكرة أدبية وتاريخية تتآكل بصمت في الجنوب الليبي.
الإبداع في مواجهة التهميش

يقول الكاتب عبد السلام الأمين: «أبرز العقبات كانت في غياب الناشر الذي يتبنى الأعمال الأدبية، رغم وجود إدارة خاصة بالنشر في وزارة الثقافة. وحتى عندما حاولت نشر كتبي على حسابي الخاص، واجهت ارتفاع أسعار النسخ، فضلًا عن ضعف التواصل بين الكتّاب والجهات المعنية بسبب قلة المناسبات الثقافية والأنشطة التي تتيح للكاتب عرض إنتاجه سواء في البلديات أو على مستوى الدولة.»
ويضيف: «عندما قدمت نفسي إلى المثقفين وأصحاب دور النشر، كان الترحيب حاضرًا، لكننا في الجنوب نفتقر إلى روح المبادرة. هناك كتّاب نجحوا لأنهم سعوا بأنفسهم، ووجدوا من يتبنى أعمالهم في ليبيا وخارجها.»
ويتابع قائلًا: «تخصصي في التربية البدنية دفعني للكتابة في مجال التدريب، وقد كانت تجربة ناجحة رغم قلة الاهتمام بالرياضة. لكن الكتابة الثقافية تظل الأقرب إلى قلبي، لأنها تقربني من مجتمعي وتساعدني على فهم ما يفقده من هوية عربية ليبية في ظل العولمة. الكتابة الرياضية أصعب، لأنها تتطلب متابعة متغيرة، بينما الأدب يمنحك مساحة أوسع للتأمل والتعبير.»
وعن مؤلفاته، يقول: «الإنسان الذي لا ماضي له، لا حاضر له ولا مستقبل. أردتُ أن أزرع في الأجيال القادمة انتماءً وهويةً وكيانًا روحيًا واجتماعيًا من خلال ما عشته وما سمعته من آبائنا وأجدادنا.»
ويختتم حديثه بنظرة متفائلة: «المشهد الثقافي بخير بفضل الشباب الذين يحاولون تجديد هوية الإنسان الجنوبي بالمهرجانات واللقاءات الثقافية والحفاظ على التقاليد. ما زلنا نملك جذورًا ثقافية متماسكة تحفظ توازن الشخصية الليبية، رغم ما نراه من عزلة وتحديات.»
المهدي جاتو:
الكتب في المخازن.. والثقافة تنتظر اهتمام الوزارة
قال الكاتب والأديب المهدي جاتو: «كل الثقافات مبنية على الكتاب، والكتاب مسؤولية الوزارة من ناحية الطباعة والنشر والإعلان. وهنا نجد تقصيرًا واضحًا من الإدارة في الوزارة، فالكتاب بالنسبة للكتّاب بصفة عامة يعني لهم عصارة أفكارهم وملخص إبداعاتهم، وهو نتاج سنين ومعاناة حتى تمكنوا من رصدها في كتاب. لذلك على الوزارة أن تقدر كل هذه المجهودات التي تُبذل من قلوبهم، وألا تطبع الكتب ثم ترميها في المخازن، بل من المفترض أن توزع هذه الكتب على المكتبات التي تتبع الوزارة على الأقل، فالكتاب إذا لم يصل إلى القارئ العادي فما الفائدة منه؟»
ويضيف: «عن تجربتي الشخصية، سلمت كتابين للوزارة ولم يتم الاهتمام بهما إطلاقًا. ونلاحظ في الإصدارات بأن أغلبها لا تُولي الاهتمام الكافي بكتّاب الجنوب، وكأننا لا ننتمي إلى هذا الوطن. وهذا ما جعل الأغلبية يطبعون كتبهم في الجنوب بصفة خاصة مستقطعين من قوت يومهم ليثبتوا وجودهم.»
ويتابع: «فعلى وزارة الثقافة أن تهيئ الأجواء لنشر الثقافة، عن طريق طباعة الكتب وتنظيم المعارض والندوات التي تساهم عن طريق الإعلام في نشر الوعي المعرفي للمواطن. فمن مسؤوليتهم توصيل الكتاب للقارئ إذا أردنا أن نرفع من مستوى المواطن.»

تراكم المعرفة بين دفاتر لم تُقرأ
يقول الكاتب والباحث ضي هلال: «منذ سنوات عديدة أنجزتُ عدة بحوث لم تُنشر بعد، وهي تحتاج إلى الطبع. ومن هذه البحوث: لمحات عن تاريخ فزّان، فزّان من عصور ما قبل التاريخ إلى الاستقلال (تسعة أجزاء)، فزّان تاريخ وحضارة، فزّان سكانها وأعلامها من خلال الوثائق العرفية والرسمية، المواقع الحضارية في الصحراء الليبية، الأطلس التاريخي لفزّان، الإنسان ماضيه وحاضره، الإسلام ومنزلة الإنسان، تفسير الرؤى والأحلام، هواجس وخواطر، قصص قصيرة، البربر بين التعريب والتغريب، سلطنة دالا أفنونو الإسلامية في إقليم كانم، وغيرها من الأعمال.»
ويؤكد قائلًا: «هذه البحوث لا تزال في الأدراج تنتظر الطبع والتوزيع لتصل إلى القراء وتساهم في رفع مستوى الوعي الثقافي والمعرفي.»
سعد أحمد الغاتي:
الإرث الضائع بين المخطوطات والوزارة
يقول الكاتب سعد أحمد الغاتي، صاحب كتاب مرزق عبر المراجع التاريخية: «هذه الأمور تحتاج إلى جهد التطوع فقط لا غير، لأنني أنا نفسي طبعت خمسة كتب على حسابي الخاص، وكتابين طبعتهما الدولة الغنية بالموارد. لديّ مخطوطات كثيرة وكبيرة ضاعت ضمن الضياع العام للدولة، واحترقت في مرزق عام 2019.»
ويضيف: «لا توجد جهات مختصة، فالموظفون في وزارة الثقافة لا علاقة لهم بالثقافة، بدليل وجود أكثر من ستين موظفًا في كل مركز ثقافي بجميع المناطق. المخطوطات ضاعت وانتهت… سأحاول أن أبدأ من جديد، لكن لا يوجد مستقبل يمكن التعويل عليه.»
حين يكتب الصمت أكثر من الحروف
علي الهاشمي :
كانت كلماته تنساب بهدوء يشبه وقار الصحراء التي جاء منها، نبرة صادقة لا تشكو بقدر ما تُحيلك إلى تأملٍ طويل في معنى الكتابة وجدواها.
في حديثه يمتزج الحلم الأول بواقعية مُرّة، فيبدو كمن يكتب صمته أكثر مما يكتب حروفه، وكأن كل ما لم يُنشر بعد يعيش في داخله مكتملًا، ينتظر فقط وطنًا يتّسع للكلمة.
الكاتب والقاص السبهاوي علي الهاشمي، صاحب خمس مجموعات قصصية ورواية «قرب خص السيد يلي»، بالإضافة إلى مجموعاته المتميزة: «موميا سبها»، «قصص مكتبة اليونسكو»، «أشياء وآفازاجار»، «الجندي العائد من سيراليون»، و «الاسم» .
حين سألته بدهشة: لماذا لم تنشر أيًّا من هذه الأعمال؟
ابتسم ابتسامة من يعرف وعورة الطريق، وكأنّ في صمته حكاية الكاتب الليبي مع النشر، فقال:
«لماذا لم أنشر أعمالي؟ لعلها تعود لأسباب كثيرة، بعضها ذاتي نفسي، وبعضها موضعي خارجي. عندما كنا شبابًا نصحو على حلم أن نكون كُتّابًا ويشار لنا بالبنان، في مرحلة الفورة الخيالية كما أسميها، وهي مرحلة بداية الكتابة. ولو تسنى لنا النشر آنذاك لما قصرنا، إذ كنا نتنفس من نافذة الصحف المحلية والليبية.
ثم نصحو على واقع ضخم معقد لا يعترف بالخيال، ويلتصق بالمادة مع تقدمنا في السن، فتمولت فينا تلك الجذوة الخيالية، ويثبت في مكانها ما يمكن أن نطلق عليه الكسل بالمعنى السلبي. وإن كان بعضهم يُبجّله، كالماغوط من الكتّاب العرب، ومن الغرب برتراند راسل وميلان كونديرا الذي كتب روايته في مدح الكسل، الذين يرون في الكسل محطة وجودية رائعة يحتاجها كل مبدع.
أما أنا، فعليّ من أولئك المترددين الذين لا ينجون من مطرقة الرقابة الداخلية، التي لا أدري إلى ما كانت تسعى: أإلى الكمال؟ أم لأنها ترى ما أفرزه غير صالح للنشر؟
أما من الناحية الموضوعية، فهي المشكلة التي تعنى بالإمكان المادي أو الإداري. فبالنسبة للمكان المادي، يعتمد الكاتب على حسابه الخاص أو على جهةٍ ما تتبناه وتنشر ما ينتج. وكلا الأمرين يصعب تحقيقه في منطقة فزّان، بسبب السعي وراء لقمة العيش، وبسبب إهمال دور النشر، وبسبب الإحباط وأمور أخرى. فكثير من الكتّاب مثلاً نشروا على حسابهم الخاص، وبعضهم أعرفهم شخصيًا، ورغم توقيعهم لعقود نشر لبعض مؤلفاتهم، إلا أنها لم تُنشر إلى حد الآن، وهذا ما يدعو إلى إحباط الكاتب.»
الشعر والتراث الشعبي بين انتظار الدعم
قال الكاتب والشاعر محمد عبد القادر عوكل:
«أنا شاعر وكاتب، لديّ كتب جاهزة للنشر، لكن لم أجد الأذن الصاغية لأيٍّ من كتبي لكي تُطبع عن طريق وزارة الثقافة. لديّ ستة كتب تحوي الأدب والتراث الشعبي، ولديّ أيضًا ما يقارب من 60 مطوية تهتم بالتوعية والثقافة العامة. فهل لنشرها سبيل؟»
ويضيف: «في منطقة فزّان مخزن التميز والإبداع، وأتمنى دائمًا أن أرى المبدعين من أبناء بلدي يبرزون على مستوى الوطن لكي نزيل مصطلح التهميش الذي يلازمنا أينما ذهبنا.»
ويختم موضحًا أعماله:
«من بين مؤلفاتي: وفاء فاطمة (ديوان شعري)، ترانيم شعبية، تعابير وجدانية لوطن اسمه ليبيا، خرابيش في أبيات، والنخلة في المأثور الشعبي.»
صرخة الجنوب: بين الإبداع والتهميش المستمر
تكشف شهادات المبدعين في الجنوب الليبي جذور أزمة الثقافة، والحاجة الملحّة إلى رؤية رسمية واضحة لدعم الإبداع وإيصال الأعمال إلى القرّاء.
ورغم الإهمال والتهميش المستمر، يظل الإبداع الفزّاني صرخة حضارية تصر على البقاء حيّة بين دفاتر التاريخ والأدب والرياضة والتراث الشعبي.
لكن السؤال يبقى:
هل ستشهد الأيام القادمة اهتمامًا فعليًا بالكتّاب والمبدعين في الجنوب؟
وهل ستنجح الأجيال القادمة في نقل هذا الإرث وصياغة وعي ثقافي يليق بتاريخ هذه الأرض وخصوصيتها؟
أم ستظل الكنوز الفكرية معلقة بين دفاتر لم تُقرأ، تنتظر من يفتح لها أبواب النشر والاعتراف؟
Share this content: