×

ابن مين في مصر .. !!

ابن مين في مصر .. !!

عطية‭ ‬صالح‭ ‬الأوجلي

‭(‬1‭)‬

مع‭ ‬أولى‭ ‬خطاي‭ ‬على‭ ‬أرصفتها‭ ‬العتيقة،‭ ‬وقفتُ‭ ‬أمام‭ ‬أعظم‭ ‬ألغاز‭ ‬القاهرة‭: ‬أسماءُ‭ ‬أهلها‭ … !!!‬

كانت‭ ‬أسماؤهم‭ ‬تشبه‭ ‬مبانيها؛‭ ‬بعضها‭ ‬مكتمل‭ ‬الوضوح،‭ ‬وبعضها‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬أسرار‭ ‬قرون‭.‬

لكن‭ ‬الغريب‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬القاهري‭ ‬اسمًا‭ ‬عاريًا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬لقب‭ ‬عائلي‭ ‬أو‭ ‬قبلي،‭ ‬كشجرة‭ ‬بلا‭ ‬جذور‭ ‬مرئية،‭ ‬أو‭ ‬كنهر‭ ‬لا‭ ‬يُعرف‭ ‬منبعه‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬سوى‭ ‬صدى‭ ‬لصوت‭ ‬ذلك‭ ‬الصعيدي‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬المصرية،‭ ‬حاملاً‭ ‬نفس‭ ‬حيرته،‭ ‬حيرة‭ ‬إنسان‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬‮«‬الهوية‭ ‬الموروثة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬‮«‬الهوية‭ ‬المُكتسبة‮»‬،‭ ‬رافعًا‭ ‬نفس‭ ‬السؤال‭ ‬الوجودي‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬ابن‭ ‬مين‭ ‬في‭ ‬مصر؟‭ … !!!‬

‭(‬2‭)‬

سؤالٌ‭ ‬يختزل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬صراعًا‭ ‬كامنًا‭ ‬بين‭ ‬عالمين‭:‬

عالم‭ ‬تُورَث‭ ‬فيه‭ ‬الهوية‭ ‬كما‭ ‬تُورَث‭ ‬الأرض،‭ ‬محددة‭ ‬سلفًا‭ ‬كالقدر‭. ‬وعالم‭ ‬تُصنع‭ ‬فيه‭ ‬الهوية‭ ‬يوميًا،‭ ‬كرغيف‭ ‬الخبز‭ ‬الساخن،‭ ‬تخبزها‭ ‬الأيام‭ ‬في‭ ‬فرن‭ ‬الشارع‭ ‬وصراع‭ ‬البقاء‭. ‬إنه‭ ‬سؤال‭ ‬يكشف‭ ‬هوة‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬يبني‭ ‬ذاته‭ ‬على‭ ‬اللقب‭ ‬العائلي،‭ ‬وآخر‭ ‬ينحت‭ ‬كينونته‭ ‬بالتجربة‭ ‬والاختيار‭.‬

‭(‬3‭)‬

في‭ ‬فضاءات‭ ‬المدينة‭ ‬المنفتحة‭ ‬وهوياتها‭ ‬المتجددة،‭ ‬تبرز‭ ‬القاهرة‭ ‬ككائن‭ ‬حي‭ ‬ينازع‭ ‬سطوة‭ ‬العشيرة‭ ‬ويرفض‭ ‬حصر‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬الدم‭ ‬والنسب‭.‬

‭(‬4‭)‬

المدينة‭ ‬ليست‭ ‬مكانًا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬فسيفساء‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬المتداخلة‭: ‬نظم‭ ‬إدارية،‭ ‬وخدمات‭ ‬معقدة،‭ ‬وعلاقات‭ ‬إنسانية‭ ‬تتشكل‭ ‬بالاختيار‭ ‬الحر،‭ ‬لا‭ ‬بإملاء‭ ‬النسب‭. ‬إنها‭ ‬بنية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬التكامل؛‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اعتلت‭ ‬خدمة‭ ‬الكهرباء‭ ‬أو‭ ‬الماء،‭ ‬اهتزت‭ ‬الحياة‭ ‬بأكملها‭.‬

‭(‬5‭)‬

هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الحية‭ ‬تستمد‭ ‬قوتها‭ ‬من‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬الاستيعاب‭. ‬ليست‭ ‬حصنًا‭ ‬لطائفة‭ ‬أو‭ ‬عرق،‭ ‬بل‭ ‬ميناءً‭ ‬آمنًا‭ ‬لكل‭ ‬وافد‭. ‬تحتضن‭ ‬الغريب‭ ‬وتصهره‭ ‬في‭ ‬بوتقتها،‭ ‬لتخلق‭ ‬من‭ ‬تنوع‭ ‬سكانها‭ ‬نسيجًا‭ ‬واحدًا،‭ ‬لا‭ ‬يمتزج‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يتألق‭.‬

‭(‬6‭)‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الجسد‭ ‬الحضري‭ ‬العملاق‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬حيًا‭ ‬إلا‭ ‬بقلب‭ ‬نابض‭: ‬سلطة‭ ‬محلية‭ ‬شرعية،‭ ‬تديره‭ ‬بحكمة‭ ‬ويرعاه‭ ‬أهله‭ ‬كما‭ ‬يرعون‭ ‬سفينتهم‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬هادر‭. ‬بهذه‭ ‬السلطة‭ ‬تزدهر‭ ‬المدينة،‭ ‬وبدونها‭ ‬تغرق‭ ‬في‭ ‬فوضى‭ ‬الجريمة‭ ‬والإهمال‭.‬

إذا‭ ‬ما‭ ‬أغلقت‭ ‬المدينة‭ ‬أبوابها،‭ ‬وتشبثت‭ ‬بالأقدمية‭ ‬دون‭ ‬الجدارة،‭ ‬تحجرت‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مجرد‭ ‬عشيرة،‭ ‬فقدت‭ ‬روحها‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬افتقدت‭ ‬تنوعها،‭… ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬كتل‭ ‬إسمنتية،‭ ‬قاسية‭ ‬وقاحلة‭… ‬ولا‭ ‬تٌطاق‭.‬

Share this content: